حصلت على تأشيرة لعبور منطقة الـ«شنغن» (Schengen) كما يُقال عنها. هكذا يسمّون مجموعة الدول التي اجتمعت على أساس لا وجود له. عالم الـ«شنغن» تجمعهم لغات مختلفة، وجوه مختلفة، طبيعة مختلفة، طعام مختلف، موسيقى مختلفة، شتائم مختلفة، وثقافات مختلفة. يختلفون، في حقيقة الأمر، على كلّ شيء إلا أنهم في آخر النهار، يجتمعون على كل شيء. أعرف بلداناً عدّة يجمعها أكثر مما يباعدها، لكنها في صراع دائم. الغريب في الأمر أن التأشيرة التي حزت عليها، منحتني حقّ الدخول مباشرة، وبدون أي عائق، إلى دول تجمعني معها أكثر من اللغة. دولة مصر الأوروبية المتحدة مثلاً. المملكة الأوروبية السعودية أيضاً. يحقّ لي الدخول إلى البلدين بدون الحصول على تأشيرة، لأن بلاد الـ«شنغن» منحتني ورقة القبول.أنا، ذلك التونسي بالولادة، يجب أن أنتظر أكثر من شهر للحصول على تأشيرة لدخول مصر. كما أنّي أنتظر أسبوعاً، ودعوة رسميّة لكي أحصل على تأشيرة للدخول إلى لبنان. أنتظر أسبوعين ودعوة رسمية ووساطة دبلوماسية لأستطيع الدخول إلى سوريا. المملكة الهاشمية الأردنية لا تحتاج إلى تأشيرة، لكنهم يحجزون على جواز سفرك، ويتوجب عليك أن تذهب إلى مقرّ المخابرات في اليوم الثاني لتبرير الزيارة. يجمعوننا في غرفة، نحن مواطني العالم الثالث وننتظر. ينادونني باسم الوالد بعد ساعات من الانتظار. كنت أعتقد في ذاك الوقت أن اسمي هو «صابر المنتصر» إلا أن شرطة الحدود نادتني هناك بـ«صابر حسين». بعد أن قضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أسمع نصف اسمي توجّهت إلى عون الشرطة. يعتقد أننا نحن «التوانسَة» مختلفون عن بقيّة العرب في كلّ شيء. أثناء احتجازي، سألني عن اسم الوالدة فأجبته: فاطمة. أباحت له روحه الطيبة أن يقول: «أنت شيعي يعني»!

غيري، «مع الجماهير الكوبية».

كانت المرّة الأولى التي يتم التعامل معي على أساس طائفي. لا تصدق، إني أكذب!
في كل دقيقة، وكل ثانية يتمّ تصنيفنا: عربيّ، مسلم، سنّي، مُعتدل ويساريّ. هكذا كتبت الشرطة في الوثيقة التي قررت إرسالها للمخابرات العامة بعد استجوابي لربع ساعة. لكنني طلبتُ حينها إلغاء ختم الدخول، وقررت عدم زيارة البلد.
في إحدى المرات، قررت السفر إلى كوبا. التقيت القنصل في أوّل لقاء، وشربنا ومرحنا معاً. وافق على طلب تأشيرتي مباشرة. كنت على ما أعتقد، التونسي الوحيد في ذلك العام الذي أراد الذهاب إلى كوبا. عندما وصلت إلى مطار «جوزي مارتي» في «هافانا» (اسمه فقط يمنحني قشعريرة الآن) قضيت ثلاث ساعات عند عون شرطة على الحدود. رأيت امرأة وقتها، وكانت جميلة كما أتذكر. سألتني عن كلّ شيء. كانت تتركني ثم تعود، وكلما عادت سألتني السؤال نفسه. تذكّرت في ذلك الوقت ما كتبه عبد الرحمن منيف في روايته «شرق المتوسط». وكنت كلما سألتني سؤالاً، آخذ نفساً عميقاً، وأعيد لها الأجوبة ذاتها. يخافون أن أسافر خلسةً إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولهذا السبب تحديداً احتجزوني. أمضيت ساعات وأنا أقنع الشرطي بأني أحبّ بلده، وأنّي بصدد تحقيق حلم الطفولة في حال وطئت قدماي أرض أميركا.
المهم هو أنه يجمعنا مع الكوبيين أكثر مما يجمعنا مع الفرنسيين مثلاً. يجمعنا معهم لون البشرة، الشواطئ، شغف الرقص، غلال البحر، حلم الهجرة، الفقر، وحب الرشوة. تجمعنا أشياء كثيرة ولا يجب أن يفرقنا شيء، إلا أننا نفترق. تجمعنا الثورة أيضاً. يجمعنا المحتلّ نفسه. يجمعنا حبّنا الشديد للحياة. تجمعنا طبيعة الحب الذي نكنّه لبعضنا، نحن مواطني العالم الثالث. يجمعنا أيضاً، تحقيرنا لأنفسنا أمام مواطني عالم الشمال. يكاد المرء منّا ينسى أن هناك إنكليزياً عاطلاً عن العمل، ويوجد أيضاً ألماني فقير جداً، وأن هناك الكثير من الإسبان في السجون.
أتذكّر الآن الحادثة التي حصلت في تونس منذ أشهر قليلة. فتحتُ نشرة الأخبار وسمعت صوت مذيع القناة الرسمية التونسية يقول: «مجموعة من الأفارقة تقوم بأعمال عنف في البحيرة (منطقة بورجوازية في تونس العاصمة)». استغربتُ! فتحتُ تطبيق الفيسبوك فوجدتُ أغلب الأصدقاء يكتبون التالي: «جماعة الأفريك احتلّونا ... باش ايفكُّولنا بلادنا». استغربتُ!
نحن التونسيين، أساساً، أفارقة! لقد أصبحنا تونسيين بقدرة التاريخ المتكرر. تركنا قارتنا الأمّ وانعزلنا. نحن التونسيين، أصبحنا تونسيين بقدرة الجغرافيا الضيّقة، ولم نعد ننتمي إلى قارتنا الأمّ؛ أفريقيا.
أتذكّر أنّي حزنت كثيراً في فترة الاحتجاجات تلك، وانعزلتُ. انعزلتُ عن العائلة والأصدقاء والحيّ، والمدينة، والعاصمة، والوطن. انعزلتُ عن التاريخ والجغرافيا. انعزلتُ، وكدت أفقد نفسي.
حاولتُ أن أصنّف نفسي. هل أنا تونسي مثلهم؟ هل أنا غير تونسي؟ هل التونسي بطبعه عنصري؟ هل التونسي أسود اللّون عنصري أكثر من التونسي أبيض اللون؟ هل البشر متساوون؟
ولماذا إذاً، كل هذا التصنيف؟
لقد علّمونا ولقّنونا أن نصنّف كلّ شيء. يصنّفوننا حسب ذائقتنا في الطعام، حسب الألوان التي نرتديها، حسب حجم أنوفنا. طريقة المشي أصبحت تُدرّس الآن في أكبر الجامعات. قرأت مرة كتاباً يحمل عنوان «كيف تمشي». انتابني شعورٌ غريب بعد قراءته. كنت أعتقد أننا نجلس لكي نرتاح، لكن بعد قراءتي الكتاب، بت أعرف أننا نجلس لكي نتعب. طريقة المشي كذلك أصبحت تُلقّن، مثل طريقة الأكل، وطريقة ارتداء الملابس، وكيفية الكلام. أصبحنا نشبه بعضنا، لدرجة أننا أصبحنا نبحث عن أصولنا. ازدهرت تجارة تحليل الـ«DNA» لأن الكل يريد معرفة أصوله. الجميع يريد معرفة من أين جاء وإلى أيّ عرق ينتمي. الجميع يريد الإجابة عن السؤال المصدر.
هل «أنا حقاً أنا»؟ قالها الرجل الأنيق ثم مات. أليست الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة؟ أليس من الحكمة أن الحياة بطبعها تقودنا نحو الموت؟ أليست الحياة هي نفسها الموت؟ أليس الموت هو الحياة؟ تحدثت كثيراً هذه المرة، على عكس عادتي. أعتقد أنّي كبرتُ. هل أصبحت «إنساناً مفرطاً في إنسانيّته»؟