خريطة القراءة: كتب هذا النص أثناء مرور سيارة تاكسي قرب «قهوة الحج» أمام المعهد التقني في منطقة طرابلس. كان الرجال في القهوة يتراشقون النكات التي تطال أزمات البلد وكرسيّ الأزمة: «لعن الله الكراسي»، فإذا من بعيد، وبصوت عالٍ قادم من مكبرات الصوت داخل سيارة الأجرة، صدح صوت فيروز: «وضاع شادي».
الفصل الأول من الأغنية:
«من زمان أنا وزغيرة كان في صبي يجي من الحراش» كان اسمه لبنان. إن كنت مقيماً في لبنان لمدة أكثر من عشر سنوات، فأنت تفهم في كل شيء تقريباً: الحضارة، التاريخ، الجيولوجيا، السياسة، الاقتصاد، الدين، الثقافة، التجارة، الفن، الموسيقى، الحب. لكن إليكم الآتي: من يفهم في كل شيء يخسر بلاده، وسأشرح لكم بما أن المشهد يتفرج علينا ويضحك.

(كيفين سينو، «الهروب مع مصفّفة الشعر»)


في الحضارة:
عزيزي، من تتمشى في شوارع هذه البلاد الفسيحة التي لا طائل منها ولا منّا، لقد وضعنا طائر الفينيق مع جمره ورماده على نرجيلة «معسل تفاحتين».

في التاريخ:
يا من تدّعي أن التاريخ محرّف، ليكن في علمك أن كل التواريخ عبارة عن دماء. لقد سال من طرابيشنا نوافير من الدم المسفوك. هل طالت لطخاته وجهك؟ امسحه بسرعة فإذاً قبل أن تنتشر الدبكة على جلدك.

في الجيولوجيا:
هذه أرضي وهذه أرضك، وكل أراضيكم أرضي! هل فهمتم شيئاً؟ ربما سيشرح لنا العدو الإسرائيلي ذلك.

في السياسة:
ههههههه! اللصوص، السارقون، الناهبون، ثم أتعلمون من هو أسوء من الصهيوني؟ ملوك العرب، واحداً واحداً، ولكننا أخذنا الحصة الأكبر!

في الاقتصاد:
شركات السخرة في بلادنا، أليس هذا كافياً؟ هنا لا يسعني سوى أن أستحضر في رأسي قول عمر ابن الخطاب:«متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».

في الدين:
شظايا مرآة لا تُعد، والمرآة واحدة!

في الثقافة:
إن قلت لي أن الشجر يحتاج ماءً فأنت كاتب، أما إن قلتَ لي إِن الشجر يحتاج إلى أن تعزف له الكمنجة، فأنصحكَ بالذهابِ إلى مستشفى الأمراض العصبية. الكتابة بعيدة جداً عن الخيال، وعن الجماليات المنمّقة وتلك المشاعر التي أكل عليها الدهر وشرب. الأمر أشبه بأن تقضي حياتكَ تبحث عن قدّاحة لإشعالِ آخر سيجارة اقترضتها من صديقك. عندما تجد القداحة ثم تشعل بها سيجارتك تكتشفُ أنك في مخزنٍ للديناميت، هكذا هي الكتابة.

في التجارة:
كم سعر ألمك؟ وموت أولادك على أبواب المستشفيات؟ كم سعر صوتك؟ كم سعر توصيلتك؟ كم سعر جسدك؟ كم سعر لبنان؟

في الموسيقى:
«الي بيدعس عجرحي والله لحشش عقبرو» يا لهذا العُمق من المواهب التي تستحق الدفن، ولا داعي لذكر الكثير، سمعت مقابلة لمحمد الدايخ حين سأله المذيع «الناس هيك بدها» آتيني بالأفضل! عزيزي المذيع هل تفضل الاغتسال بمياه المجارير أم بالماء النظيف؟

في الحب:
خذ الطلاق!

في الوطنية:
كالعيش المشترك مثال على ذلك: لبنان. هاهاها...بودي إضافة إيموجي «الضاحك» لكن المحرر كان سيحذفها. أنت تضحك الآن يا عزيزي فأضفه إذاً! إنه على وجهك فامسحه. نعم إنه الليل يفضحنا مرة أخرى يا صديقي. لم يعد بوسعه التستر بعد أن فضحناه. من السهل إيجاد المميز ومن الصعب أن تجد العادي.
أعزائي، لست باحثاً عنِ الفروقات بين اللفت والكبيس، بين ما أجد وما لم أجد. ولست باحثاً عن التفاصيل، لأنني موقن جداً أن بوسع البقرة أن تأتيك باللبن، ولكن ليس بوسعِ اللبن أن يأتيك بالبقرة!
لا تأخذوا كل شيء على أنه مضمون، سيأخذه الله وحده.
-وهل الله سيء؟
-الله عادل.

الفصل الثاني من الأغنية:
«وشادي ركض يتفرج» لماذا تحشر عينيك فيما لا ترى؟ طع طع طع...سقط عشرات القتلى! وهنا تطورت الأحداث شيئاً فشيئاً فإذا بصوت أمه الخافت تروي لنا: «خفت وصرت أندهلو وينك رايح يا شادي». لقد قتله الفضول على باب المطار. عاشر عشرات القتلى، وتوالت الدموع كون الكلام وحده لا يفي بالغرض. «إندهلو ما يسمعني ويبعد يبعد بالوادي». من الذي يبتعد؟ بكاء أمه أم هو؟ وتضيف بحرقة: «من يومتها ما عدت شفتو وضاع شادي»، نشكر الله أنك لم ترينه. ومن الجيد أنه ضاع، أتعلمين لماذا؟ -وهل ترى أن الوضع مناسب للسخرية؟ لقد تأثرتم فعلاً، حقاً!- إليكم الآتي:
لم يذهب شادي، ولم يعد. لقد شوهد في يخت لأحد أمراء الخليج يتناول طبق الأرز والدجاج. لقد قُتلنا جميعاً حتى الذين قتلوا. لم يبق من الحسرة إلا جملة: يا ليتنا ضعنا مثل شادي.
وشادي الذي وضعوه على رأس صاروخ ليحرر القدس، وهو الذي خطفوه في الخليج وسألوه في غرف التعذيب ما الفارق بين السياسة والصحراء، وهو الذي قاتل وقُتل في بلاد الشام دفاعاً عن الشعب ودفاعاً عن السلطة، وهو الذي تحول إلى نصف امرأة بنصف رجل عندما تمشى في أوروبا، وهو الذي انمسخ في بلاد فارس. ومثل أي رجل محشور قلت في نفسي ربما أجد حمّاماً خارج هذه البلاد.

الفصل الأخير:
أراكم تسألون من هو شادي. هو كل قارئ لهذا النص، هل أتممت قراءته؟ هل ابتسمت؟ هل تضايقت؟ جميعنا في الحفرة نفسها، فخفف عنك...رجاءً! تخلى عن وقارك وعن كبريائك. المعول في يدنا لا يجدي نفعاً، وكلما حفرنا سننزل أكثر. إلى أين؟ أميركا، أوروبا، «سائر المشرق»؟ الأكيد، أننا سنكون في الجهة الأخرى من العالم، علّ الفصل الأخير هو بداية للفصل الأول. عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.