1-
ليلُ الشعراء يختلف عن ليل غيرهم. أشعارهم عن الليل هو ليلٌ لوحده. لم يغب الليل عن الشعر العربي أبداً. فقد وصفه الحصري القيرواني قائلاً: «يا ليل الصب متى غده/ أقيام الساعة موعدهُ؟ رقد السُّمَّارُ وأرّقهُ/ أسفٌ للبين يردِّدُّهُ فبكاه النّجم ورق لهُ/مما يرعاه ويرصدهُ». الشاعر هنا يتوسل اللّيل كتوقيت للإلهام. وإذا كنا نعرّف الكتابة بأنها نوع من أنواع المكابدة، فإن الشاعر يتجاوز هذا الشقاء ليصل إلى سكونه بغية استحضار صفاء الذهن. قد يكون الشاعر الفرنسي المرموق ألفريد دوموسيه الذي كتب قصائد عدّها النقاد من عيون الشعر الفرنسي، وقد عنون مجموعته بـ«الليالي»، مثالاً بارزاً لحسن استثمار الليل. كأن الليل عنده يأبى إلا أن يكون طويلاً كصيحة الشاعر العربي القديم: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي». يصرّ دوموسيه على كون الليل طويلاً لكثافة الأحداث والمشاعر الإنسانية فيه، ما يجعلنا نستشعر ثقل الوقت ووطأته ونحن نسافر معه على طول هذه القصائد سفراً ليلياً طويلاً.

2-

معاجم اللغة العربية حافلة بأحاديث صافية عن الليل، وعن أسمائه وأوصافه. أورد الهمذاني في معجمه «الألفاظ الكتابية» ثمانية وعشرين اسماً للّيل وللظلمة منها: «الغسق، والفحمة، والجهمة، والغبش، والغطش، والهزيع» وذكر ستاً وعشرين فعلاً للّيل مثل: «أظلم، ودجا، وأدجى، وعتم، وأعتم، واعتكر، وادلهمّ، وأسدف، وتدخدخ». كما أفرد ابن السكيت إحدى عشرة صفحة قسّمهم إلى قسمين: صفة الليل وأسماء نعوت الليل في شدة الظلمة. ومن ذلك قوله: «الظلام أوّل الليل وإن كان مقمراً، وأتيته ظلاماً أي ليلاً، ومع الظلام أي عند الليل. ويقال أتيته أول الليل وهو من عند غيوب الشمس إلى العتمة. وأتيته ظلاماً أي عند غيوب الشمس إلى صلاة المغرب، وهو دخول أول الليل، وأتيته ممسياً بعد العصر إلى غيوب الشمس.»

(تصميم: فرانسوا الدويهي)


3-

في الليل تحدث كلّ انقلابات العالم. الليل هو زمن الوشوشة، الكسوف، التفكر، التأمل، التفلسف، الحلم، الخطر. إنّ تاريخ الفكر، وبكلّ موضوعية، يفضل النهار على الليل. يرى الفيلسوف الفرنسي فوسيل مؤلف كتيب «الليل: العيش بلا شاهد تجربة الليل الحقّة»، أن الشخص الليلي هو الذي يترك الليل يقوده كما يشاء، يهيم به كما لو أنه كائنٌ مُسير. وهنا قام فوسيل بالتفرقة بين ما أسماه الذات الليلية عن الذات «النهارية» تلك التي تظن أنها تقود كلّ شيء.

4-

تعال نتكلم عن الحرية. إن أردنا تعريف الحرية فسنجد أنها تتجسد في الاختيار. الحرية يعني أن تختار. كيف يكون الليل رديفاً للحرية إذاً؟ لأنه يسمح لنا أن نختار. الليل طريقة للفرار من نظرات الآخر. هو الهروب من مراقبة الجموع التي تملأ الفضاءات العامة لبعضها البعض. الليل هو الانزياح عن تعليمات البوليس وأوامرهم. إنه انسلاخ عن نمط الحياة المفروض من المؤسسات، ومن «الدولة-المركزيّة» السّاعية إلى تشكيل الناس وقولبتهم. الليل فضاء الصعلكة الحميم، هو الحميمية التي ترى فرصتها في التصعلك.
وقد لا نجاوز الحقيقة إذا ما وصفنا الليل بأنّه متمرد يفلت من قبضة السلطة الساعية إلى فرض سلطتها على ساعات اليوم الأربع والعشرين. في عام 1642 منع برلمان باريس الإعدامات العامّة ليلاً وجعلها مقتصرة على النهار لأن فعلاً كهذا، ولكي يحقق النتيجة المرجوّة، بحاجة إلى شهود يتّعظون منه. الليل أكثر ديموقراطية من النهار. فهو إذا غيّب التفاصيل الفردية في ظلامه يضع الجميع على قدم مساواة. فالمتشردون، والمشاؤون، والسكارى يأخذون من الليل ملاذاً، وبالتالي هذا ما يفتح باب الصفح والحلم القانوني من طرف رجالات القانون كالدرك والشرطة أن يتساهلوا ليلاً في فرض القانون كون «مجتمع الليل» واسع العدد ما يجعله عصياً على التحكم والسيطرة.

5-

الليل مسرح الإخبات والوقوف بين يدي المحبوب (الله طبقا لتقليد الإسلامي) لدى العارفين (أهل الله) باصطلاح المتصوّفة. وعليه لا نبالغ إن قلنا أن الليل ضرب من الحرية أو قل أنّه تجربة وجدانية. فمهما كان إنسان ما بعد الحداثة مسترخٍ في علاقته بالوقت، فإن «طاحونة الأيّام» تستهلكه عبر فقدانه لأبعاده الإنسانية كون كلّ ما من حوله يسعى إلى تدجينه، بالتالي يسمح الليل للساهر بأن يذعن للبطء ويسلم نفسه للصمت والسكوت، فيكتشف نفسه ويقلل جهله بذاته و يخفف اغترابه عنها. من ثم إن الليل هو يوتوبيا العشاق. هو ذروة الحياة الزوجية. هو الزمن الأمثل لتكثيف وتعميق جذور العشق، والحب والإثارة. ويسمح الليل لهم في الغوص ببعضهم مجدداً عبر خفة اللعب، ودهشة الجنس، وسحر الكلام.

6-

في بدايات ظهور الراديو كان الناس يتحرّون هدوء الليل كي ينصتوا بتمعّن لما يجود به المتكلمون على الأثير. ممارسات كهذه تبين لنا، إن جاز التعبير، هوية الليل الديموقراطية. ومع هذا فإن الباحث في الجغرافيا لوك غويازدزينسكي في كتابه «الليل آخر حدود المدينة» يعتبر أن الليل يشكل موضوعاً «غير مفكر» فيه بعد، ليس في البحث العلمي فحسب، بل كذلك في صياغة السياسات العمومية. وهو يعتقد أيضاً، أنها كثيرة هي الأشياء التي في وسع الليل تلقينها للنهار. يراقب لوك غويازدزينسكي الليل عبر فصول كتابه ليصل إلى نتيجة مفادها: الليل ورشة حقيقية للابتكار والفعل. رحمه يعج بالحركة.
وعلى غرار غويازدزينسكي، هناك أيضاً ما هو «غير مفكر فيه» عندما يجيء الأمر لليل، وهو أنه علينا أن نتعلم كيف نجري حواراً معه لا مجرد أن عيشه، ذلك حتى لا يستحيل إلى مجرد ظلام يعقب ضوء النهار.