شَعرٌ عالق في «الفرشاة». يا لفظاعة الحدث! هكذا يُرعبنا إعلان الشامبو الذي احتلّ الشاشة لمدّة دقيقة. إنه لخطب جلل بأن يتساقط شعرك حتى يُرصَد على سيراميك الحمّام الأبيض تحت الدوش! لكن هناك إعلانات أكثر غزارةً، تدعوك إلى التعويض بأن تزرع الشعر بأسرع وقت وأحدث تقنيّة، لتنام مرتاح البال، بلا شعر يملأ وسادتك البيضاء. في جميع الأحوال، كيف ترضى بزحف الشيب إلى رأسك؟! اهرع إلى صبغه بموادنا الطبيعيّة ليبدو طبيعياً تماماً. فالشيب حدث غير طبيعي! هذا ما تقوله «الدعاية» أيضاً.لطالما انشغل الإنسان بكل ما يتعلّق بسطح الجزء المستدير الزلِق من جمجمته: جمالاً، وطقوساً، وخوفاً، ومعتقداً... هو ارتباك مبرَّر بلا ريب، كيف لا وقد انتبه البشريّ في وقت مبكر إلى أن الجمجمة «طاسة» صلبة تشكّل درعاً حامياً لأكثر أعضاء الجسد لزوجةً، حتى إن أحد الأساتذة وصّف الدماغ بـ«كتلة الجيلو الرخوة المتراقصة». هكذا لاحظ الإنسان أن طبقة جلد رقيقة تغلّف الجمجمة، ومن فوقها حقل صغير من العشب الأسود، أو الأشقر، أو البرتقالي... شَعر بمثابة غلاف اسفنجيّ لتلطيف ارتطامات الرأس بالأشياء. ربما لهذا استبطن ذلك الهلع لتساقط الشَّعر، ولم يكن ذلك الإعلان بعيداً عمّا يختزنه الدماغ من خوف في نقطة سحيقة من غرائزه اللاواعية.

الفتيان الشقر
ذات ظهيرة، قصدتُ أنا وكريم ابن خالي، صيدلية فاروق، عند أطراف منطقتنا لناحية شارع العريس، في الشياح. ابتعنا من عنده ما لا يحتاج إلى وصفة طبيّة. هي مجرد قارورة أوكسيجين مطهّر للجرح. أخذناها، لنتوارى في أحد الأسطح، لنسكبها مناصفة على شَعري وشعره. تحوّلنا إلى العرق الأشقر في غضون نصف دقيقة! عدنا إلى الشارع، متباهين، وغير آبهين بأيّ ملاحظة، أو تنمّر. أساساً، لم نكن نتوقّع سوى نظرات الإعجاب من المحيط، وخاصةً بنات الحيّ، وزميلات المدرسة. لقد أعدنا الكرّة بعدها بأشهر، وكان شعرنا قد ازداد طولاً، لكنه لم يبلغ مبتغانا لتقليد تسريحة «ساسوكي»، النينجا الياباني الذي يعقد شعره إلى الأعلى، ويقفز مثل القرد من تلّة إلى شجرة إلى حافّة. يطير، فيتمايل شعره مثل ذيل الهرّ الصغير.

«جمجمة». آندي وارهول.

أحببنا «ساروتوبي ساسوكي» كما أحببنا شخصيّة دايسكي في سلسلة «غريندايزر». جلّ وسامته كانت تنطلق من شعره غير المسرّح بعناية، لكنه كان جذّاباً بما يكفي لإبهار حبيبته هيكارو، ابنة العمّ دامبي، الذي غالباً ما يخفي صلعته بقبّعة قشّ كبيرة. تابعنا ذلك الأصلع، لكننا لن نتماهى معه في تخيّلاتنا الطفولية التي اقترنت بأبطال ذوي شعر مميّز. هكذا تابعنا حلقات «المحقق كوجاك» من دون التعلّق بشخصيّة بطله تيلي سافلاس، الاميركي من أصل يوناني. نجم بصلعة كاملة، حتى رحنا نسمّي كل أصلع: كوجاك.
كانت معضلتنا كيفيّة رفع شعرنا إلى الخلف بخصلات ملساء مثل جون ترافولتا، فكانت النصيحة من أحد الأصدقاء بإلباس الرأس فردة من جورب نسائي، ليشدّ الشعر إلى الخلف. وصفة تحتاج إلى ساعات، تبدأ من فترة ما قبل النوم، حتى استيقظنا صباحاً، ليمتثل الشعر للقالب القهري الذي عبّأناه فيه.
بالطبع لم نلتفت، ولو لمرّة واحدة للشعر كوظيفة حامية للدماغ، ولا كونه أداة تدفئة في برد الشتاء. اعتبرناه عنواناً للفت النظر. غواية ساذجة لا أكثر.

«شمشون» و«ميدوزا»
كان جهاز الفيديو قد دخل بيتنا في وقت مبكر، فتعرّفنا على «شمشون» في ذلك الفيلم الذي استأجرناه من متجر "«قمر الدين»، على أن يبقى ذلك الشريط في بيتنا لمدّة أسبوع كباقي الأفلام المستأجرة. كان هذا سبباً كافياً لنعيد مشاهدته عدة مرات في ذلك الأسبوع. لقد تعاطفنا مع هذا البطل القويّ بشعره، والذي تحايلت عليه «دليلة» لتقصّ خصلاته، ويفقد قوّته العجيبة. لم نكن نعلم ان «شمشون» هذا، شخصية واردة في التوراة، في سفر القضاة، كذلك في العهد الجديد، في رسالة إلى العبرانيين. كلّ ما علق في أذهاننا من ذلك الفيلم، أن الشَّعر قد يكون مصدراً للقوّة الأسطوريّة، فلا يبقى مجرد عشب نحتار في تصفيفه بين فرق يمين، وفرق شمال، ورفع إلى الخلف بواسطة جورب.
صغاراً كنّا حين بدأنا نهتم بماركات الثياب، وكان جينز «فيرساتشي» هدفاً بحد ذاته، لجمال قصّته وغلاء سعره. لفتنا ذلك الوجه المنحوت في شعار «فيرساتشي»، لم نكن نعرف أنه رأس «الميدوزا» إحدى الأساطير اليونانية، المتفرّدة بشَعرها المؤلَّف من الأفاعي. كان ذلك المصّمم الإيطالي على دراية تامّة بتلك الأفاعي، انتبه لها حينما كان صغيراً أثناء لعبه في أرضيّة من الأنقاض في منطقة ريدجو كلابريا، حيث كان ذلك الوجه محفوراً. وحين كبر وحوّلها شعاراً له. قلَّم أفاعيها، ليقدّمها كشعار أليف بلا أنياب وبلا سمومٍ. في أساطير الإغريق القديمة، «ميدوزا» كانت فتاة جميلة تخدم في معبد الآلهة بأثينا، وقد قامت آلهة الحكمة والقوة والحرب، الآلهة التي تحمي المدينة، بتحويلها إلى فتاة قبيحة متشيطنة، فزرعت في رأسها أفاعي وثعابين بدل خصلات شعرها الطبيعي التي امتازت بها عندما كانت فاتنة، وذلك اقتصاصاً منها، لأنها مارست الجنس مع «بوسيدون» إله البحار الذي أغواها داخل المعبد.

تاج وخوذة
للجمجمة أغطيتها، لحمايتها من الشمس الحارقة، مثل الشماغ، والمنديل، والطربوش، كما هناك أغطية جماجم مولّدة للدفء مثل القبّعة الروسية المصنوعة من الفرو، أو قبّعة الصوف، المشغولة بالصنّارة. لكن البشر اخترعوا ما هو أكثر صلابةً لحماية الرأس، فكانت الخوذة المعدنية التي تمنع السيف من بلوغ الجمجمة، ثم جرى تطوير تلك الأداة بعد عقود لتصبح بعض الخوذات واقية للرصاص. هناك أيضاً خوذة سائق الدراجة النارية، ومثلها بمواد أقلّ للدراجة الهوائية، أو للاعب الكيك بوكسينغ والفنون القتالية، كما خوذة المهندس، ورجل الإطفاء.
حول الجمجمة قد يلتفّ تاج الملك، المذهَّب، المرصَّع، فلا يؤدي وظيفة وقائية، بل هو اجراء دلاليّ، يشير إلى مرتبة معتمره. التاج برمزيته، يدغدغ الدماغ من جوّاته، فتحت ذلك الإطار الدائري، تلمع الأنا المفخّمة، ليحتفي المخّ بسلطة الأمر، والنهي، والتحكّم بشؤون البلاد، ومصائر العباد. حول الرأس قد تُعقَد عصبة حاملة لشعار، فيتحوّل الجبين إلى منصّة إعلانية في الظاهر، لكن عمليّة الشدّ تحقن الدم بنسبة كافية لتوليد الشعور بالقوّة، والحماسة.
«ضفروا إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه وقصبة في يمينه، وكانوا يجثون قدامه ويستهزئؤن به قائلين: السلام يا ملك اليهود». هذا ما ذكره إنجيل متّى عن فعلة الجنود الرومان مع السيد المسيح. هي طريقتهم في تعذيبه في تلك النقطة المركزية، والرمزية من الرأس. يغرزون الشوك في تلك الأجزاء من الجمجمة، لينزّ الدم ببطء، راسماً بالأحمر خطوطاً طولية. وبذلك فإنهم يقولون: «إننا نوجعك في مصدر قوّتك. رأسك وما يحتويه». كان تاجاً من البلّان، أو من القندول ربما، على عكس إكليل الغار الذي كان يعتمده الرومان لتكريم الفائزين بالحروب.

قبّعات
كان سطح الجمجمة ولا يزال مركزاً سيميائياً، تُحدَّد عبره الشخصيات ووظائفها، ومراكزها: عمامة الشيخ، وقلنسوة الحاخام، وقبّعة التخرّج، وطربوش الطاهي، وحجاب المسلمة، وغطاء الراهبة... أليس من اللافت تغطية الرأس بشكل كلّي من قبل «كو كلاكس كلون» تحديداً حين يهمّون بارتكاب جريمة قتل عنصرية؟ هكذا فعلت بعض الميليشيات في لبنان فترة القتل على الهوية. وهكذا يفعل السيّاف لحظة فصله لرأس المحكوم عن جسمه. كأنهم في أقنعتهم تلك، يمحون ملامحهم، فلا يقدمون أنفسهم كبشر، إذ يغلّفون جماجمهم بتلك الأقنعة لتكميم عقولهم، التي تلغي ذاتها حين تقوم بحذف دماغ آخر من الوجود.

«المغنية الشقراء»
يحلق الرهبان البوذيون رؤوسهم بشكل كلّي. كأنهم يزيلون حجاباً عن وعيهم كما وأنه من شروط الحج عند المسلمين حلق الشعر للرجل، وهو حال من يدخل الجيش لأول مرة، أو حتى دخول السجن. كأن حلق الرأس مؤشر بصري معنوي على عملية الانتقال من حال إلى حال، ولذلك تقوم بعض النساء في ثقافات عديدة، من بينها الهند، بحلق شعرهنّ بعد وفاة أزواجهنّ. هو حلق لا يشبه ما فعلته الممثلة ديمي مور حين مثّلت في فيلم «جي إن جي»، وهو ما قامت به الممثلة الهندية جايا بتشاريا، أما حين ما فعلته المغنية المصرية شيرين، فكان الحدث مصدراً لتأويلات عديدة، مثل معاقبة الذات، أو كان افتعالاً متعمداً مرجعه زوجها حسام حبيب. لكن، على خلفية أخرى قامت الفنانة اللبنانية رينيه ديك بذات التصرف، لتؤدي دورها كسيّدة سادية في مسرحية «الخادمتان» ولم يكن حلقها لشعرها ضرورة درامية، إنما جاء كصدمة بصرية، في حين كانت هناك مسرحية ليوجين يونسكو، تحمل عنوان «المغنية الصلقاء» والمفارقة أن هذا التوصيف يمرّ بشكل عرضي في المسرحية، وهو ما زاد عبثية المسرحية عبثاً إضافياً. في أواسط التسعينيات، شاهدت تلك الأعمال في مسرح بيروت، بتوقيع جواد الأسدي، وروجيه عساف، حيث كنت أسرح بمخيّلتي في ذلك المسرح الصغير، متخيّلاً شكل رأس عمّي أحمد، الأصلع الذي يضع شعراً مستعاراً، ولم نعرفه إلّا وهو يرتديه. كان يسرّحه بعناية، أسود في مرحلة طويلة، ثم جعله يشيب في آخر سنوات عمره، وهو ما لم يفعله الممثل سمير غانم مع شعره المستعار، الذي بقي حيّاً وأسود بعد وفاة صاحبه.

ساموراي وهندوس
في أفريقيا، وبعض الشعوب الأخرى، هناك من يحلق شعر رأسه ليملأه بالأوشام، كعلاج، وتعويذة، وحماية، وانتماء. تختلف النقشة، فتختلف الدلالة. عند مقاتلي الساموراي، يُحلَق الشعر من الأعلى فقط، بتسريحة تدعى «شونماج»، ولها دلالاتها المتشعبة. بينما يحرّم الهندوس حلاقة الشعر بشكل كلّي، حتى إن تحت عمامة كل هندوسي شعراً يفوق بطوله، شعر «رابونزال» التي ترخيه عن الشرفة ليتسلقه حبيبها. «رابونزال» حكاية بذاتها لما تحمله قصتها من إشارات عن الشعر كنعمة، ونقمة، ولعنة.

كان سطح الجمجمة وسيبقى غلافاً يشغل البال بدلالاته، ومآلاته. لكن أمره هيّن أمام الدماغ ذات نفسه، ككتلة تحتاج إلى الكثير من الأبحاث، والاختبارات، ودرب العلماء معه طويل، ودقيق. حتى ذلك الحين، من الأسلم اعتمار خوذة، حتى ولو كان المرء يرتدي ربطة عنق.