تعادل بعض الاقتباسات، من شدّة كثافتها، كتاباً من الحجم الضخم. مثال على ذلك، قول مونتاني: «من يعلم الناس كيف يموتون، يعلمهم كيف يحيون». الآن استبدِل ثيمة «الموت»، مع الحفاظ على حمولتها الدلالية، في جملة مونتاني بثيمة «الرعب» وضع مكان كلمة «يموتون» كلمة «يرتعبون». ستحصل على الغاية ممّا نريد تناوله فيما هو آتٍ. دعنا نشخصن الموضوع قليلاً، وسأبدأ بالتكلم عن نفسي. علاقتي بالرعب بدأت باكراً وأنا دون العاشرة بقليل. كوابيس متكررة ملخصها قيادتي لسيارة ماما، هيونداي من نوع أتوز عامَي 1999 أو 1997، لا أذكر على وجه الدقة، المهم أنّ السيارة صُنعت قبل الألفينيات.
(رسم: فرانسوا الدويهي)

بسرعة مخيفة، في طرقات حينا بالقبة آنذاك، والتي ذكرها الهاشمي القروابي في أغنيته المشهورة «وحداني غريب» بقوله: «ألو ألو واش راهي بحذاك القبة»، توقظني في كلّ مرة ذاكرة ارتطامي بمدخل بيتنا!
عود على بدء. تمر السنوات وأنسى موضوع الرعب إلا لماماً، كاستحضاري للحيوانات المحشوة المتراصّة على طول أثاث غرفتي وهي تكلمني في كوابيسي، أو المرور بباب جارنا الأخضر الذي علّق عليه لوحة رسمت عليها صورة كلب مدرّب من نوع دوبرمان له عضلات بارزة وكمامة كبيرة في وسط الصورة التي تعلوها عبارة فرنسية بخط غليظ مفادُها: «حذاري كلب خطير». لا أنسى ما حييت رعب هذه الصورة التي أدمنت الحملقة فيها، وقراءة تحذيرها وكل ذلك مصحوب، في غالب الأحيان، بنباح الدوبرمان الذي يجعل قلبي ينقبض ومشيتي تهتز. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، وبمناسبة ذكر الاهتزاز، لا أنسى القفزات الهستيرية لوالدتي إثر سماعها صوت مرور أي شاحنة بمحاذاة بيتنا القديم الذي كان عند بابه مطب مبالغ في علوّه، ما يجعل مرور الشاحنات المثقلة بحمولتها عند توقفها على هذا المطب مصدراً لارتجاج بيتنا. لقد كان صوت الشاحنات مخيفاً، يُعيد لأمي ذكريات ارتدادات الزلزال الذي حصل في «بومرداس» عام 2003، حيث بلغت قوّته ست درجات على مقياس ريختر تقريباً. كانت المرة الأولى التي أجرب فيها النوم ليلة كاملة في السيارة. ولحجم الخوف الذي عشناه، لم تتخلّص والدتي من آثار هذه التروما إلا بعد سنوات. وعطفاً على ما أحسبه لا ينفصل، إن علاقتي بالرّعب فُتحت على مصرعيها، إذ سألني خالي، جراح القلب، عن أفلام الرّعب. فقد أثار سؤاله: «تتفرج les films d'horreur لياس؟» (هل تُشاهد أفلام الرعب، لياس؟) أهمية أفلام الرعب لنا جميعاً. فليس عليك أن تمسك مبضع الجرّاحين أو تمتهن الجراحة لتُقاوم الرعب والوهم والخوف. أعترف أنني لم أشاهد أي فلم رعب رغم مرور سنوات على الحادثة، لكنني أثق في «براديغم الطب» إن جاز التعبير فكما قال الأول: «بالطب تُصان الأبدان، وبالرماية تحرز الأوطان». ولطالما كانت علاقتي بالطّب علاقة أنطولوجية تنطوي على كوجيتو معين هو «أنا أتطبّب إذا أنا موجود»، ولطالما زهوت بتبصّر موسوعي كبير عارف بشتى علوم عصره، وهو الإمام الشافعي، إذ رسّخ فهمي عن الطب بقوله: «أنبلُ العلوم بعد الشريعة، الطب». أخيراً استهلك الفسابكة وعصافير تويتر معنى حدّ الابتذال، لكن، على مذهب: «ما تَكرّر تقرّر» وانطلاقاً من الاستقراء الواقعي يجدر بنا التأكيد على أن معظم ما نخاف ونرتعب من حدوثه لن يقع. ولنردّد بأعلى صوتٍ على قمة جبل أو قبالة مرآة في غرفة النوم: «من يعلم الناس كيف يرتعبون، يعلمهم كيف يحيون». غرس هذه العبارة في اللاوعي واجب وطني!