على خلاف موقفها المحايد سابقاً، منعت القوات التركية محاولة جماعة «هيئة تحرير الشام»، التي يقودها أبو محمد الجولاني، التوغّل في ريف حلب للوصول إلى أحد أهمّ معابر التهريب بين مناطق سيطرة الفصائل ومعاقل «قوات سوريا الديموقراطية - قسد»، والذي كانت فقدت «الهيئة» سيطرتها عليه جراء انقلابات في داخل إحدى الجماعات التابعة لها. وأثار الموقف التركي المستجد تساؤلات عديدة، ولا سيّما أن أنقرة كانت مهّدت الطريق أمام رجل «القاعدة» السابق لقضم مناطق عديدة في ريف حلب، ضمن محاولات لدمج المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، والتخلّص من الفواتير المرتفعة التي تدفعها تركيا للفصائل، والدفع في اتجاه «التمويل الذاتي» بالاعتماد على مصادر اقتصادية متنوّعة، تتصدّرها معابر التهريب.

وتزامن الموقف التركي مع متغيّرات عدّة، أبرزها إعادة تشكيل «الائتلاف» المعارض، وتسليم قيادته لهادي البحرة، الذي أصبح يشغل منصبَين - إذ يتولّى أيضاً رئاسة وفد المعارضة في «اللجنة الدستورية» -، وذلك في إطار استعدادات تركية مستعجلة لتجهيز المعارضة لجولات «الدستورية» التي من المقرّر استئنافها قبل نهاية العام الحالي، بعد أكثر من عام على تجميدها. أيضاً، أتى التحوّل التركي في ظلّ أزمة أمنية داخلية تعيشها «الهيئة» على خلفية اعتقال وتجميد صلاحيات عدد كبير من قيادييها الذين قاموا بتسريب معلومات إلى جهات أمنية غربية، في «خيانة» أغضبت أنقرة، واستثمرها الجولاني لإزاحة عدد من شركاء دربه الذين يعتبرهم تهديداً على منصبه كزعيم للجماعة التي ولدت من رحم «القاعدة» وتحاول تسويق نفسها على أنها معتدلة.
وخلال الأشهر الستة الماضية، تمكّنت «تحرير الشام»، التي تسيطر على إدلب، من تعزيز نفوذها في ريف حلب، سواء من خلال نصب نقاط عسكرية لها، أو عن طريق عقد تحالفات مع فصائل عدة، أو عبر تحريض مقاتلين يتبعون لـ«أحرار الشام» على الانشقاق ومبايعة الجولاني، الأمر الذي وفّر للأخير السيطرة على معبر «الحمران»، وهو أحد أهمّ المعابر مع «قسد»، وساعده في إحكام قبضته على سوق المشتقات النفطية، من بوابة إنشاء شركة احتكرت السلعة في ريف حلب وحملت اسم «شركة الأنوار». غير أن قبضة الجولاني على «الحمران» سرعان ما تراخت بعد انقلابات داخلية في «أحرار الشام»، أعادت السيطرة على المعبر إلى الفصائل، ودفعت بالجولاني إلى الاستنفار وإرسال رتل كبير من المقاتلين نحو ريف حلب، ليصطدم من جديد بحواجز عسكرية نصبها الجيش التركي، وتحليق مكثّف للمروحيات والطائرات المسيّرة، ما أجبره على التراجع عن «غزوته».

ثمّة تغيّر في طريقة أنقرة في إدارة الجزء الميداني في الملف السوري، قد يشمل تبدّلات تدريجية في هيكلية وإدارة بعض الفصائل


وفي السياق، كشف مصدر في المعارضة، في حديث إلى «الأخبار»، أن الخطوة التركية تأتي في أعقاب اجتماعات تمّ عقدها خلال الأسابيع الثلاثة الماضية بين عدد من قادة الفصائل الذين يستظلّون بـ«الجيش الوطني» المدعوم تركياً، وضباط من الجيش والاستخبارات التركيين، وحضر بعضها رئيس «الحكومة المؤقتة» المعارضة، عبد الرحمن مصطفى. وأفاد المصدر بأن قادة الفصائل ورئيس «المؤقتة» قدّموا خلال اللقاءات «طروحات عديدة يمكن من خلالها الاقتراب من حالة التمويل الذاتي» التي تسعى إليها أنقرة، وأبرزها «استعادة بعض مصادر الدخل ومن بينها معبر «الحمران»، إلى جانب «وقف محاولات الجولاني التمدّد في ريف حلب». ولاقت هذه الطروحات قبولاً تركياً، ضمن «محاولات خلق مرجعية موحّدة تنهي حالة الفوضى الفصائلية»، إلى جانب مساعي «تصدير الحكومة المؤقتة على أنها مؤسسة معارضة موجودة على الأرض يمكنها الجلوس على طاولة المفاوضات وإجراء لقاءات دبلوماسية وسياسية وحتى أمنية». وفيما يتمتع رئيس «الائتلاف» الجديد بعلاقات متينة مع رئيس «المؤقتة»، ترغب أنقرة بأن «يشكل الاثنان، إلى جانب رئيس هيئة التفاوض، بدر جاموس، الأعمدة الثلاثة» التي اختارتها للمعارضة في الفترة الحالية.
والجدير ذكره، هنا، أن أنقرة تسعى إلى خفض وتيرة النزاع الفصائلي القائمة، كوْنها تشكّل تهديداً مباشراً لاستثمارات تركية عديدة في الشمال السوري، من بينها مشاريع «مدن الطوب» المموّلة من قطر، والتي تقوم تركيا بتوطين لاجئين سوريين فيها على حدودها الجنوبية مع سوريا، بهدف خلق حزام بشري موالٍ لها، وإبعاد الأكراد قدر الإمكان عن الحدود. كما أن إنهاء حالة الفوضى الفصائلية من شأنه خلق بيئة أكثر أماناً يمكن استثمارها تركياً في المفاوضات مع الولايات المتحدة، التي دفعت بوفود عدة إلى زيارة ريف حلب لبحث إمكانية خلق استثمارات، بالاستفادة من استثناءات عقوبات «قيصر»، والتي قدّمتها الإدارة الأميركية لمناطق سيطرة «قسد» وبعض مناطق ريف حلب، واستثنت منها المناطق التي سيطرت عليها تركيا بعد طرد مقاتلي «قسد»، بما فيها عفرين.
وفي وقت شكّكت فيه المصادر في إمكانية توحيد الفصائل المتناحرة في ريف حلب بسبب مرجعياتها المختلفة، وسعي كل منها لزيادة نفوذه، رأت أن السلوك التركي المستجد «يؤكد وجود تغيّر في طريقة أنقرة في إدارة الجزء الميداني في الملف السوري، بدأ فعلياً بعد توحيد مرجعيات المناطق التي تسيطر عليها وربطها بوالٍ تركي واحد، بعد أن كانت مقسّمة على أكثر من ولاية تركية». وهذا «التغيّر» من شأنه أن «يفتح الباب أمام سلسلة تغييرات أخرى متوقّعة على الأرض قد تشمل تبدلات في هيكليات وإدارات بعض الفصائل بشكل تدريجي»، بحسب المصادر. وتأتي هذه التحركات تحضيراً لمرحلة مقبلة تتضمّن مفاوضات على عدّة أصعدة، من بينها المسار الأممي (اللجنة الدستورية)، ومفاوضات إطار «الرباعية» للتطبيع بين دمشق وأنقرة، والتي تحاول كل من موسكو وطهران تحريكها عن طريق مقترحات عدّة. ومن بين تلك المقترحات الطرح الروسي المتمثّل في العودة إلى «اتفاقية أضنة» الموقّعة بين سوريا وتركيا عام 1998، والتي تقضي بتشكيل غرفة أمنية مشتركة بين سوريا وتركيا، تسمح لأنقرة بعد موافقة دمشق، بالتوغل خمسة كيلومترات في الأراضي السورية في حال وجود أي تهديدات، بالإضافة إلى الطرح الإيراني الذي أعلن عنه وزير خارجية طهران، حسين أمير عبد اللهيان، قبل يومين، حول وضع خطة واضحة لانسحاب الجيش التركي من سوريا ونشر قوات الجيش السوري على طول الحدود، بشكل ينهي أي مخاوف أمنية لدى أنقرة، على أن تلعب روسيا وإيران دوراً ضامناً في الميدان.