لا يُعتبر الجفاف في سوريا ظاهرة طارئة؛ فالاضطراب المناخي الذي ظهرت آثاره بشكل واضح مع بداية الألفية الجديدة، ألقى بوزره على الدول النامية، غير المجهّزة للتعامل مع هذا النوع من الأزمات، سواءً بسبب غياب البنية التحتية اللازمة لمواجهته، أو بفعل عدم وجود خطّة واضحة ضمن جدول زمني محدّد للتقليل من أضرارها، على رغم وجود محاولات لذلك لم يُكتب لها الاستمرار. وبينما مثّل الجفاف أحد العوامل «التأسيسية» للحرب التي تعيشها سوريا حالياً، وفق دراسات عديدة ربطت بين موجات الجفاف التي ضربت سوريا أعوام 2006 و2007 و2008، وما تبعها من تغيّرات ديموغرافية ناجمة عن حركة نزوح السكّان من المناطق الريفية المتضرّرة، إلى المدن، الأمر الذي أضرّ بالتركيبة الديموغرافية وبالقطاع الزراعي الذي فقد قسماً كبيراً من العمالة، من جهة، وزاد من الضغط على المدن من جهة أخرى، يَكثر الحديث في الوقت الحالي حول آثار إضافية ستتركها الموجة التي تعيشها سوريا حالياً، والتي تمسّ ما بقي من مقوّمات الأمن الغذائي، وما بقي من اليد العاملة المهدَّدة بالهجرة، بحثاً عن مكان آخر للعيش.


جرح مفتوح
تعرّض القطاع الزراعي في سوريا، العام الماضي، لضربة كبيرة جرّاء أزمة الجفاف، الأمر الذي دفع وزير الزراعة، حسّان قطنا، إلى الحديث عن «أسوأ موجة جفاف تضرب سوريا منذ 70 عاماً»، والتذكير بأن «البلاد واجهت جفافاً مشابهاً في أعوام 1999، 2008، و2018، ولكنه أتى على محافظات محدودة فقط». عنى ذلك أن آثار الموجة الحالية ستَظهر على كامل الأراضي السورية، وهو ما شهدت إرهاصاته بالفعل مناطقُ مختلفة، كما في حالة جفاف سدود وأنهار في الشمال والشمال الشرقي، وانخفاض مستويات المياه في سدود وبحيرات اصطناعية في المناطق الساحلية، والتي تُعتبر من أغزر المناطق السورية بالأمطار.
وتترافق الأزمة الحالية، على عكس سابقاتها، مع جملة من الأزمات المركّبة، جرّاء الحرب التي أضرّت بشكل كبير بالبنية التحتية السورية في شتّى القطاعات، ومن ضمنها القطاع المائي، وأدّت إلى خروج مناطق عن سيطرة الحكومة، ما وضع مناطق عديدة خارج نطاق الرقابة، فازدادت عمليات حفر الآبار والاعتماد على المياه الجوفية بشكل غير مدروس، وارتفعت نسبة التلوّث أيضاً، سواءً بسبب عمليات تكرير النفط البدائية في بعض المناطق في الشمال والشمال الشرقي، أو بسبب الاعتماد المتزايد على مولّدات الكهرباء الصغيرة التي باتت منتشرة في جميع الأماكن. كذلك، تأتي موجة الجفاف الراهنة في وقت تعاني فيه سوريا من أزمة إنسانية حادّة، وضعت، وفق «برنامج الأغذية العالمي» التابع للأمم المتحدة، نحو 60% من السوريين في قبضة الجوع، في زيادة كبيرة مقارنة بالعام الماضي، حيث ذكر البرنامج أنه خلال عام واحد، انضمّ نحو 4.5 ملايين سوري إلى قائمة السكّان الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي.

تترافق موجة الجفاف الحالية، على عكس سابقاتها، مع جملة من الأزمات المركّبة التي أنتجتها الحرب


بالإضافة إلى ما تَقدّم، أدّت الأوضاع الميدانية التي خلقتها الحرب، وسيطرة قوى عدّة على مناطق متفرّقة من البلاد («قسد» في الشمال الشرقي، وفصائل تابعة لتركيا و«هيئة تحرير الشام» في الشمال والشمال الغربي) إلى الإضرار بشكل كبير بمحاصيل استراتيجية عديدة، أبرزها القمح الذي تمنع «قسد» المزارعين من تسليمه للحكومة، ويتمّ الإتجار به ونقل قسم كبير منه إلى الأسواق العراقية، فيما تُسيطر تركيا على قسم آخر منه، وتقوم بنقله إلى أراضيها عبر مكاتب خصّصتها لهذا الغرض في الشمال السوري. ولا يتعلّق الأمر بالقمح فحسب، بل إن الجفاف ألحق ضرراً كبيراً بمعظم المحاصيل، بالإضافة إلى أنه مسّ مياه الشرب، حيث طبّقت الحكومة خطّة تقنين شديدة لتلافي انخفاض منسوب السدود، بهدف الحدّ من هدر المياه، وضمان استمرار توافرها في ظلّ الظروف الحالية.
وبالإضافة إلى أزمة الجفاف، تعاني سوريا، ومعها العراق، من انخفاض منسوب مياه نهرَي الفرات ودجلة (يمثّل الفرات شريان الحياة بالنسبة إلى سوريا)، بفعْل قيام السلطات التركية، بين وقت وآخر، بحبس المياه، وخفْض الكمّيات المتدفّقة إلى سوريا والعراق، في تجاهُل للأعراف والمواثيق الدولية، والاتفاقية الموقّعة بين سوريا وتركيا عام 1987، والتي تقضي بأن تسمح تركيا بمرور ما لا يقلّ عن 500 متر مكعّب في الثانية في نهر الفرات، على أن تمرّر سوريا للعراق ما لا يقلّ عن 58% من هذه الكمّية بموجب اتفاق لاحق تمّ توقيعه.

البحث عن حلّ
رئيس «الجمعية الفلكية» في سوريا (منظمة غير حكومية)، الدكتور محمد العصيري، يرى، خلال حديثه إلى «الأخبار»، أن «الحكومة تتعامل حتى الآن مع الأمر بمبدأ ردّ الفعل، من دون وجود خطّة واضحة لتلافي الأزمة، والحدّ من أضرارها العميقة». العصيري، الذي تُقدّم جمعيته خدمات عدّة في الاستشعار عن بعد، والمراقبة الفلكية والمناخية، بالتعاون مع جهات علمية عالمية عديدة، ما يوفّر لها وصولاً واطّلاعاً على بيانات كثيرة، يشير إلى أن «المشكلة لا تتعلّق بكمّية الأمطار الهاطلة، أو معدّلها، وإنّما بتواترها وتوزّعها»، مضيفاً أنه «نتيجة الاضطراب المناخي العالمي الناجم عن الاحتباس الحراري، ظهر الاضطراب في توزّع هطول الأمطار، حيث بِتْنا نشهد هطولاً غزيراً خلال أيام قليلة في الشتاء، وأياماً عديدة يكون فيها الجوّ معتدلاً بلا أمطار». وفي الوقت الذي يَتوقّع فيه استمرار أزمة الأمطار حتى عام 2025، يلفت إلى أن «هذه الأزمة معروفة في جميع دول العالم، وجميع البلدان تسعى لتلافيها، ضمن خطط واضحة وبجدول زمني محدّد، وهو ما لا يجري في سوريا».
أمّا عن الحلول، فيقول العصيري «(إننا) نحتاج إلى تشكيل لجنة تضمّ خبرات علمية وممثّلين عن جميع الجهات الحكومية، تقوم بدراسة الأوضاع، وتعدّ خطّة ضمن جدول زمني محدّد، بشكل يضمن الاستفادة من مياه الأمطار خلال الأيام التي تشهد هطولاً غزيراً، وتعالج الخلل في هدر المياه، وتعتمد بشكل أكبر على الطاقة البديلة، بالإضافة إلى وضع خطّة لزيادة المساحة الخضراء في سوريا، وتخفيض نسب الانبعاثات الملوّثة، ووضع حدّ للهدر الذي يجري حالياً في المياه الجوفية». صحيح أن العالم بشكل عام يسير نحو كارثة بيئية نتيجة الاحتباس الحراري، وأن منطقتنا - لحُسن الحظّ - لا تُعتبر من بين الأكثر تضرّراً بسبب ذلك، إلّا أن العصيري ينبّه إلى أن «عدم وجود خطّة متكاملة، والاكتفاء بالخطط الآنية، يضاعفان من آثار الكارثة في منطقتنا». ويضيف أن «لدينا، وعلى عكس دول كثيرة، منفذاً على البحر (المتوسط)، الذي يشكّل مصدراً دائماً للمياه»، متسائلاً: «لماذا لا نتوجّه إلى تحلية مياه البحر، سواءً عن طريق مشاريع حكومية أو عن طريق السماح للقطاع الخاص بهذا النوع من الاستثمارات؟». ويَعتبر أن الظروف التي خلقتها الحرب باتت «شمّاعة يتمّ تعليق الكثير من الأزمات عليها»، إذ إنه «لا يمكن لظروف الحرب أن تمنعنا من تلافي كوارث تمسّ أهمّ أساسيات الحياة»، وفيما العالم كلّه يسير بخطى متسارعة نحو الكارثة «علينا أن نتحرّك، وأن يكون تحرّكنا علمياً ومدروساً، وهو أمر ممكن وضروري ولا بد منه».