تواصل موسكو الضغط على أنقرة على أصعدة عدّة، قبل التوصّل إلى توافقات جديدة في شأن إدلب. وتقول المعلومات المتوافرة إن سقف المطالب التركية انخفض فعلياً، على رغم الحفاظ على خطاب إعلامي يطالب برجوع الجيش السوري إلى حدود توافقات «سوتشي». وسجّلت العمليات العسكرية البرية، أمس، تراجعاً نسبياً، تؤكد مصادر عسكرية أنه «مؤقت»، بينما تابعت المدفعية والطائرات استهداف نقاط تمركز المسلحين على طول خطّ الدفاع الجديد داخل محافظة إدلب.لا اتفاق جديداً بين موسكو وأنقرة في شأن شمال غرب سوريا بعد، لكن شهر شباط/ فبراير الحالي لا يزال مؤهلاً ليشهد تطوراً على هذا الصعيد. في الأيام الأخيرة، تتالت اللقاءات بين مسؤولي البلدين، من دون إنجاز تفاهم، باستثناء تدوير بعض الزوايا. المؤكد أن سقف طموحات أنقرة انخفض، على رغم استمرار ساستها وإعلامها في الحديث عن «إعادة الجيش السوري إلى حدود تفاهم سوتشي». وتقول معلومات متداولة في دمشق إن «خطوط الدفاع التركية (سياسياً وعسكرياً) انحسرت إلى داخل محافظة إدلب، مع التركيز بشكل خاص على الطريق الدولي M4 (حلب، اللاذقية)». ووفقاً لتلك المعلومات، باتت جهود أنقرة «منصبّة على محاولة تجميد العمليات العسكرية في محافظة إدلب، مع التسليم باستعادة الجيش السيطرة على ريف حلب الغربي، وصولاً إلى الحدود الإدارية بين المحافظتين». وعلى رغم أن هذا التراجع لا يبدو كافياً لمعسكر دمشق وحلفائها، إلا أن فرص القبول به مرحلياً تظلّ واردة، في ظلّ الحسابات السياسية والاقتصادية المعقّدة للملف السوري بأكمله. ويجدر التذكير بأن خطط «التحرير المتدرّج» لإدلب كانت قد وُضعت قبل قرابة عامين، ليتمّ تنفيذها على مراحل تخلّلتها فترات «خفض تصعيد» (راجع «الأخبار» 4 آب/ أغسطس 2018).
وتشير المعلومات إلى أن المفاوضين الأتراك سمعوا من نظرائهم الروس ما مفاده أن «أنقرة هي التي أخلّت بالتزامات سوتشي»، وأن «تحديث التفاهم قد يكون ممكناً في حال تنفيذ بعض الالتزامات التركية». ويرتبط هذا الكلام، بالدرجة الأولى، بتفكيك «هيئة تحرير الشام/ النصرة» بوصفها عنواناً عريضاً لـ«الإرهاب»، الذي أخذت أنقرة على عاتقها فصله عن «المعارضة المسلّحة». واللافت، وفق مصدر دبلوماسي إقليمي، أن «الأتراك سمعوا من بعض حلفائهم الغربيين كلاماً يصبّ في الخانة نفسها، وخلاصته صعوبة دعم أيّ تحركات عسكرية لأنقرة في ظلّ هيمنة الجهاديين على إدلب». ومن المرجّح أن تكون هذه المعطيات هي السبب في بدء سريان تسريبات في الأيام الثلاثة الماضية عن «ظهور وشيك لأبو محمد الجولاني، يعلن فيه حلّ الهيئة».
تؤشر بوصلة الجيش، حال مواصلة العمليات، إلى هدفين استراتيجيّين مهمّين، هما: مدينتا دارة عزة والأتارب


لكن، يصعب التعامل مع تلك التسريبات بموثوقية، ولا سيّما أن كلام الجولاني في آخر ظهور له (يوم السبت الماضي، عشيّة بدء تسريبات التفكيك) خلا من أيّ مؤشرات لإمكانية قيامه بخطوة مماثلة في المدى المنظور. ولم يتضمّن حديثه أيّ جديد، بل تمحور حول «المحن والابتلاءات ووجوب الصبر»، وحول استمرارية المعركة التي هي «معركة أهل الشام». ولا يعدّ إقدام الزعيم المتطرّف على خطوة من هذا النوع أمراً يسيراً أو مرتقباً حالياً، بفعل التعقيدات التي تفرضها هيكلية «هيئة تحرير الشام» ومراكز القوى داخلها، فضلاً عن أن العلاقة بين أنقرة و«الهيئة» ليست علاقة تبعية كاملة، على رغم التأثير الكبير الذي تحظى به الأجهزة التركية داخل «تحرير الشام». ولن يكون حلّ «الهيئة»، في حال حدوثه، كافياً لتفكيك المعادلة «الجهادية» في إدلب، إذ لا تزال الرايات السود حاضرة هناك تحت مسمّيات أخرى، أبرزها «الحزب الإسلامي التركستاني» وتنظيم «حرّاس الدين».
تدرك موسكو ــــ بلا شكّ ــــ هذه الحقيقة، وتستخدمها ورقة ضاغطة على أنقرة، إلى جانب أوراق فعّالة أخرى، من شأنها إضعاف موقف الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في أيّ لقاء حاسم (يُرجّح حدوثه قبل انتهاء هذا الشهر) بينه وبين نظيره الروسي، فلاديمير بوتين. وتسعى موسكو إلى تحقيق معادلة تكرّس واقعاً جديداً، ميدانياً وسياسياً، بتسليم تركي. وتضمن هذه الوصفة الخروج بخرائط محدّثة، من دون قطع الخيوط مع أنقرة، علاوة على تخفيف نفوذ الأخيرة في «الواجهة السياسية» للمعارضة. ومن بين أوراق الضغط الروسية الأخرى، تبرز الورقة الاقتصادية، في ظلّ معلومات عن فرملة الصادرات التركية إلى روسيا مؤقّتاً. يضاف إلى ذلك، استمرار السعي الدبلوماسي الروسي إلى إعادة صوغ معادلات إقليمية جديدة، ولا سيّما في ملفَّي سوريا وليبيا. وتبرز، ضمن هذا السياق، محادثات يجريها اليوم وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مع نظيره الأردني، أيمن الصفدي، «من المتوقع أن يكون الوضع في سوريا، وحولها، أحد موضوعاتها الرئيسية»، بحسب مصادر روسية. ويكتسب التفصيل المتقدّم أهمية إضافية في ضوء معلومات عن مساعٍ إماراتية لإعادة الحياة إلى معبر نصيب الحدودي بين سوريا والأردن، في إطار مبادرة غير معلنة (راجع «الأخبار» 14 شباط/ فبراير2020).
ميدانياً، سُجّل، أمس، انخفاض في وتيرة العمليات البرية في ريف حلب، مع استمرار عمليات القصف الجوي. وتقول مصادر عسكرية سورية إن هذا الانخفاض «تكتيكي مؤقت»، وإن «العمليات مستمرة». وتؤشر بوصلة الجيش، حال مواصلة العمليات، إلى هدفين استراتيجيين مهمّين، هما: مدينتا دارة عزة والأتارب في ريف حلب الشمالي الغربي. ومن شأن السيطرة على هاتين المدينتين تحقيق فصل تامّ بين ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، علاوة على التمهيد لفصل منطقة عفرين، الخاضعة للاحتلال التركي («غصن الزيتون»)، عن مناطق سيطرة المجموعات المسلّحة في إدلب.



«تحرير الشام» تنفي أنباء حلِّها
نفى مسؤول التواصل الإعلامي في «هيئة تحرير الشام»، تقي الدين عمر، أمس، الأنباء المتداولة عن قرار بحلّ الهيئة، على وقع العملية العسكرية الجارية في إدلب. وقال عمر، في تصريح إلى «شبكة الدرر الشامية» (تابعة للمعارضة المسلّحة)، إنه «ليس هناك أيّ طرح يتعلّق بحلّ فصيل من فصائل الثورة، ولم تعد تنطلي هذه الحيل على أحد، وليس هناك أيّ طرح يتعلق بحلّ الهيئة». وحول مشروع الفصائل في إدلب، أشار عمر إلى أن «قوى الداخل المحرّر تعمل على جمع الكلمة، ورفع التنسيق بين الفصائل العاملة لجمع الطاقات ضمن جسم واحد، تحت قيادة واحدة تشرف على مقدّرات الجميع لمواجهة هذا العدوان». ورأى أن «المحتلّ الروسي يسعى إلى استنساخ تجربة الجنوب والغوطة الشرقية لضرب معنويات أهلنا في إدلب، وكسر إرادتهم كما يظنّ، لكن هذا الباب من الحرب لن يُفتح بإذن الله في المحرّر، فأرض إدلب كانت ولا تزال عصيّة على مشاريع الخيانة والمصالحات». وأضاف إن «العدوّ يلجأ إلى باب آخر من أبواب حربه القذرة ضدّ ثورتنا المباركة، باب الحرب الإعلامية والنفسية لتحطيم هذه العزة في صدور المجاهدين والأهالي، لتخور قواهم وترمي أيديهم سلاح صمودهم وثباتهم».
(الأخبار)