تصريحات مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون - بشأن ضمان حماية المقاتلين الأكراد من أية عملية عسكرية تركية، قبل زيارته لأنقرة - أضعفت فرص نجاح مهمته التي اعتقد البعض أن هدفها تجديد التحالف التركي - الأميركي. روسيا هي الطرف الأكثر قدرة على التوسط لإيجاد مخرج سلمي للأزمة الحالية، نتيجة علاقاتها الجيدة مع مختلف أفرقائها. لكن شرط النجاح هو تغليب الأفرقاء للمقاربة الواقعية، وفي مقدمتهم الأكراد.لن تساعد المواقف المتناقضة الصادرة عن إدارة الرئيس دونالد ترامب - بشأن تبعات وتداعيات الانسحاب المعلن لقواتها من سوريا - في استعادة الثقة المفقودة بينها وبين حليفها التركي. فبعد الإعلان المفاجئ للانسحاب من قبل ترامب، «الذي أثار ابتهاج المسؤولين الأتراك»، حسب مصادر مطّلعة في إسطنبول، جاءت توضيحاته بشأن جدوله الزمني «غير المتسرع»، ومن ثم تصريحات مستشاره للأمن القومي جون بولتون، من إسرائيل بشأن ضرورة حماية الأكراد من تركيا، لتبدّد هذه البهجة. معلومات كثيرة رشحت عن أهمية زيارة جون بولتون وجيمس جيفري (الممثل الخاص للولايات المتحدة بشأن سوريا) لتركيا، التي تبدأ اليوم، والعروض «السخية» التي ستقدمها واشنطن خلالها لاستعادة دفء العلاقات مع أنقرة. لكن أقل ما يمكن أن يقال، أن مقدماتها كانت سيئة للغاية. الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، قال إن «الادعاء أن تركيا تستهدف الأكراد غير منطقي، لأنها لا تستهدف سوى مقاتلي تنظيم الدولة ووحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني». وقد أكد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، الرأي نفسه في تصريح أدلى به أمس، رداً على كلام بولتون. القراءة التركية لخلفية المواقف الأميركية المتناقضة لخصها المحلل السياسي يوسف كاتب أوغلو، الذي رأى أن «تصريحات بولتون، التي جاءت كنوع من التعديل على تصريحات ترامب السابقة، تُعَدّ انعكاساً للانقسام في الإدارة الأميركية. إذ إن هناك جناحاً غير راضٍ عن هذا الانسحاب، ويحاول عرقلته أو تأجيله على الأقل، ويبدو أنهم يضغطون على ترامب لهذا الغرض». سيزيد واقع هذا الانقسام من صعوبة استعادة «العصر الذهبي» للتحالف التركي - الأميركي، على الرغم من حيويته، التي تتجاوز الحرب السورية، بالنسبة إلى الاستراتيجية الأميركية، ليشمل روسيا والبحر الأسود وآسيا الوسطى. وما يزيد من صعوبتها أيضاً، التطورات التي طرأت على العلاقات الروسية - التركية التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى شراكة رابحة بين الطرفين في أكثر من منطقة ومجال. تضاعف هذه المعطيات من غموض المصير الذي ينتظر الشرق السوري.
على الرغم من حيويته، من الصعب استعادة «العصر الذهبي» للتحالف التركي ــ الأميركي


أزمة الثقة بين أنقرة وواشنطن، والشكوك المتبادلة بين الطرفين بشأن النيات الفعلية لكل منهما حيال الآخر، بدأت في سوريا وفي أيام إدارة الرئيس باراك أوباما تحديداً. صحيح أن تساؤلات فعلية بشأن مستقبل التحالف الاستراتيجي بين البلدين في ضوء المتغيرات الهائلة التي شهدها الإقليم والعالم كانت مطروحة قبل هذا التاريخ، وكذلك حديث متزايد عن ضرورة البحث عن إمكانيات إعادة تموضع كل منهما، إلا أن السبب الرئيسي للأزمة المذكورة، هو القرار الأميركي بالاعتماد الأساسي على الميليشيات الكردية لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. شكل هذا القرار، من منظور تركيا، تهديداً استراتيجياً يتعاظم مع تزايد الدعم الأميركي لميليشيات تعتبرها مجرد امتداد لحزب العمال الكردستاني. والتوسع الكبير للرقعة الجغرافية التي سيطرت عليها تلك الميليشيات في خضم حربها ضد داعش، مرشحة لأن تصبح برأيها قاعدة خلفية لحركة انفصالية في كردستان التركية في المستقبل. المصادر المطلعة قالت لـ«الأخبار» إن «جميع الوعود المتعلقة بالمعركة الدائرة في سوريا، التي قدمتها الولايات المتحدة لتركيا، لم يوفَ بها. هي وعدتها بشراكة موسعة في سوريا ولم ترَ منها شيئاً، ووعدتها أيضاً بجمع الأسلحة التي قدمتها إلى وحدات حماية الشعب الكردية حال انتهاء المواجهة مع داعش، لكنها لم ولن تنفذ هذا الوعد». التذكير الموسمي من قبل مسؤولين أو محللين أميركيين بمركزية تركيا في الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة، الموجهة أولا ضد روسيا، لا يسمن ولا يغني من جوع ما لم تتبعه خطوات عملية، وأُولاها الالتفات إلى ما تنظر له أنقرة، بإجماع غالبية نخبها السياسية والعسكرية، كخطر محدق بوحدتها الترابية. إضافة إلى ذلك، إن مطالبتها بالعودة لأداء الدور نفسه الذي أدته خلال الحرب الباردة ضد روسيا تتناقض مع المصالح المستجدة لكن الوازنة التي باتت تجمعها بها. بين هذه المصالح، الشراكة في ميدان الطاقة التي يجسدها مشروع السيل التركي الذي يسمح بنقل الغاز الروسي عبر تركيا إلى أوروبا، والذي أُنجز جزؤه البحري في شهر تشرين الثاني الماضي. وبينها أيضاً التعاون في المجال النووي، حيث تبني شركة روزاتوم الروسية أول مفاعل نووي تركي. لكن التعاون الأكثر إثارة للقلق، بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، ذلك الذي يجري بين روسيا وتركيا في البحر الأسود، والذي يكتسب طابعاً استراتيجياً بكل ما للكلمة من معنى. وقد أشار إيغور دولانوي في مجلة «لوموند ديبلوماتيك» الصادرة هذا الشهر، إلى أن تمسك البلدين باتفاقية «مونترو»، التي وقعت عام 1936، والتي تمنح تركيا حق التحكم بمضيقي البوسفور والدردانيل، يعود إلى أنها أتاحت تحويل البحر الأسود إلى «بحيرة مشتركة روسية - تركية». فالاتفاقية تنصّ على أن من حق تركيا منع السفن الحربية من عبور المضيقين في حالة الحرب، وتنص أيضاً على الحدّ من عدد سفن الدول غير المشاطئة للبحر الموجودة فيه ومن مدة هذا الوجود. «اتفاقية مونترو تمنع البحرية الأميركية من التصدي للانتشار المتزايد للأساطيل الروسية في البحر الأسود». يجري هذا الأمر في سياق «أصبحت فيه البحرية الروسية المنتشرة تضم غواصات «دييزل» الجديدة، وطرادات وسفناً سريعة حاملة لصواريخ كروز من نوع «كاليبر»، الأمر الذي يعطي روسيا القدرة على إلحاق خسائر هائلة بأي عدو يستهدف مصالحها». وقد يكون هذا التعاون الاستراتيجي الروسي - التركي أحد أسباب الدعم الأميركي للانقلاب الذي استهدف الحكم التركي عام 2016. من غير المرجَّح أن تضحّي تركيا بتعاونها المثمر مع روسيا مقابل وعود أميركية كلامية لا تستتبع بخطوات فعلية.
في ظرف يتسم بضعف الثقة بين واشنطن وأنقرة، وبشراكة نامية ومستقرة نسبياً بينها وبين موسكو، يصبح الطرف الروسي الأكثر حظاً في التوسط لإيجاد مخرج سلمي للتأزم المتصاعد في الشرق السوري. وعلى الرغم من أن البعض يعتقد أن عملية عسكرية ضد الأكراد ستحظى بتأييد شعبي عارم في تركيا، إلا أن التورط في حرب طويلة ومكلفة كفيل بانقلاب المزاج الشعبي إلى عكس ما هو عليه اليوم. سوريا لن تقبل باجتياح تركي لأراضيها مهما كانت المبررات والوعود التي تقدم بشأن انسحاب الجيش التركي بعد العملية. فالثقة معدومة تماماً بين الطرفين بعد الدور المحوري الذي أدته تركيا في تحويل الأزمة السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد إلى حرب طاحنة. ودمشق قادرة مع حلفائها على المساهمة في تحويل أي مغامرة عسكرية تركية إلى عملية مرتفعة الأثمان. لكن هي أيضاً لها مصلحة في وساطة روسية تجد مخرجاً سلمياً للتأزم الحالي. الشرط الأول لإمكانية مثل هذه الوساطة، فضلاً عن نجاحها، استعداد الطرف الكردي لتقديم «تنازلات مؤلمة» عبر التخلي عن القسم الأعظم من مطالبه، من نمط الفدرالية وما شابه، التي طرحها في فترة ظن فيها أن الولايات المتحدة حليف يمكن الوثوق به والاعتماد عليه في مواجهة دول المنطقة. الولايات المتحدة قوة من وراء البحار، وستعود من حيث أتت، أما دول المنطقة فباقية...