غالباً ما يتجاهل المارّ يومياً، في طريقه إلى العمل أو الجامعة أو المحالّ التجارية، جمال المدينة التي يتجوّل فيها. قلّما يخرج رأسه من نافذة السيارة لتأمل الأبنية وهندستها، وشجر الساحات الكبيرة والصغيرة، وواجهات المحال وأعمدة الكهرباء، لكن، في شهر كانون الأول/ ديسمبر يُصبح الأمر غير ممكن. يستحيل على المارّ أن يسلك مساره اليومي بالطريقة نفسها كباقي أشهر السنة، فمعالم المدن، بالأخص الكبرى منها، تتغيّر جذرياً لتتحول إلى لوحة مضاءة لا يمكن إلا التوقف أمامها والنظر إلى جمالها وربما التقاط صورة للذكرى، أو «سلفي» لمواقع التواصل الاجتماعي.
جبيل وبكفيا

كل سنة في شهر كانون الأول ترتدي معظم المدن والقرى اللبنانية حلة العيد، وتبدأ البلديات بالإعداد لتزيين الشوارع، كلّ منها بحسب امكاناتها المادية وموقعها الجغرافي والاقتصادي. البلدات الصغيرة تزيّن عواميدها بأجراس أو أشكال مختلفة مضيئة تخبّئها من سنة إلى أخرى، وتلف أشجارها بالشرائط الملونة وزينة الميلاد. وتتنافس المدن الكبرى والأسواق التجارية لتقديم أجمل ما عندها، لتصبح حديث الشهر بجمال زينتها.
سباق التنافس هذا ليس مسيطراً، لكنه حاضر من دون أدنى شك في أذهان السكان والقائمين على الزينة، سواء كانوا جهة رسمية كالبلديات، أو جهة خاصة كأصحاب محال تجارية، أو حتى مجرد سكان على شرفة مطلة على دوّار زيّنت شجرته، وأُضيئت في بداية الشهر.
ينتقل هذا التنافس إلى الجلسات الخاصة أيضاً، عندما تجتمع سيدة من جبيل مع صديقة لها من بكفيا حول مائدة غداء في أحد المطاعم البيروتية، تلبية لدعوة إحدى الجمعيات. تبدأ السيدة الجبيلية بالحديث عن زينة مدينتها التي وردت صور لها في صحيفة «وول ستريت جورنال»، لا تخفي أبداً ابتسامتها معبرةً عن فخر عظيم، ومتحدثةً عن عدد السياح الهائل الذي استقبلته المدينة منذ ورود الخبر والصورة في موقع الصحيفة. تباهت السيدة بجمال مدينتها واكتظاظها بجميع الوسائل الإعلامية، عندما قاطعتها جارتها على الطاولة. الأخيرة أتت من بلدة بكفيا واسترسلت بالحديث عن زينة البلدة وعن مدى اهتمام المتنيين كلهم بها. بالفعل، زينة بكفيا رائعة، بالأخص لدى اللجوء إلى تزيين الأشجار الشاهقة للدوّارين الكبيرين في وسط البلدة بالشرائط المضيئة والقناديل الحمراء والصفراء. لم تستثن بلدية بكفيا شجرة واحدة من الزينة، لا بل أكثر من ذلك منذ بضع سنوات أقامت مغارة ضخمة إلى جانب الحديقة العامة، وتلجأ إلى إضافة زينة جديدة كل عام مع الحفاظ على الزينة القديمة وصيانتها.
بالعودة إلى جبيل، التي خطفت الأنفاس هذا العام، بعدما تميزت مدينة زحلة العام الماضي بزينتها، فهي تمثل الوجهة الأساسية للسياح اللبنانيين والأجانب في هذا الشهر. الشجرة الطويلة ذات الأوراق الذهبية، اجتذبت أنظار اللبنانيين جميعهم، بكافة طوائفهم وانتماءاتهم، بحسب رئيس بلدية المدينة زياد حواط. لم يعلم حواط بالخبر المنشور على صفحة الموقع للصحيفة الأميركية، إلا عبر رسالة الكترونية من صديق مغترب يزف له الخبر بعد ساعات قليلة على وروده. يتسم صوت «الريّس» بالرضى عندما يبدأ الحديث عن إقبال السياح من غير الجبيليين إلى المدينة هذا الشهر، يقول إن أكثر من 150 ألف ضيف زار جبيل في الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر كانون الأول،
يضج الشارع
من الخارج أما
المحال التجارية فشبه فارغة

فضجّ السوق القديم بالسياح وامتلأت المطاعم والمقاهي ونشطت العجلة الاقتصادية في المدينة. حتى إن المسافة التي كانت تقطعها السيارة سابقاً بخمس دقائق، وهي المدة التي يتطلبها ترك الطريق السريع والوصول إلى وسط مدينة جبيل، باتت اليوم تتطلب ما يقارب الساعة ونصف الساعة للوصول.
هدف حواط جعل مدينة جبيل وجهة للسياحة الشتوية، بعدما تصدّرت اللوائح الصيفية منذ سنوات عدة. «130 ألف دولار هو المبلغ الذي قدمه بنك بيبلوس هذا العام لإتمام الزينة في الشارع الروماني في المدينة. كل عام يقوم أحد المصارف في المدينة بتقديم مبلغ من المال ما يجعل الجبيليين والبلدية مُعفَين من دفع هذه المبالغ» بحسب حواط.

جونية

أما جارة جبيل الساحلية، جونية، فتتألق أيضاً بحلة العيد المقسمة على ما يقارب الـ600 عمود في المدينة وعلى سوقها القديم، إضافة إلى سوق الكسليك و16 مستديرة، بحسب عضو بلديتها روي الهوا. تشير شانتال عاقوري، وهي صبية من سكان جونية، إلى أنها أصبحت تشعر برهجة العيد أكثر بعدما نشطت الحياة الليلية في المدينة منذ ما يقارب السنتين، «لأن أضواء الزينة جميلة ليلاً، ولأن الزينة في السوق القديم تضفي على المقاهي رونقاً ميلادياً مميزاً، فيما واجهات محال السوق التجاري تبقى الجاذب الأول خلال فترة النهار».
لا تكتفي بلدية جونية بتزيين الطرقات احتفالاً بشهر الأعياد، إنما تنظم أيضاً حفلات سنوية للأولاد في السوق العتيق تضم عرضاً للسيرك والمشاركة بالأعمال اليدوية وحفلاً خاصاً بالميلاد، حيث يوزّع «بابا نويل» الهدايا على الأطفال. يقدّر الهوا أن البلدية تصرف ما يقارب الـ150 ألف دولار للزينة، ويعلل ذلك بالإشارة إلى أن مدينة جونية كبيرة ومتفرّعة، إضافة إلى احتوائها على سوقين تجاريين كبيرين.

الزلقا ـ انطلياس

عند الحديث عن زينة الميلاد، لا يمكن أن تغيب عن البال زينة السوق الممتد من أنطلياس حتى الزلقا الموازي للطريق السريع. اجتياز هذه المسافة بالسيارة، في أقلّ من ساعة خلال شهر كانون الأول، يعدّ إنجازاً.
من جسر أنطلياس، وصولاً إلى منطقة نهر الموت عالم خاص ينبض بالحياة على طول الشارع. الأطفال يبتسمون، العجائز يتأبطون يد من هم أصغر عمراً ويتبضعون، واجهات المحال ترتدي أبهى ثياب العيد في انتظار الشارين، فالعيد لا يكتمل إلا بالثياب الجديدة، أو هذه العادة التي كانت سائدة سابقاً. اليوم، يضج الشارع من الخارج، أما المحال التجارية فلا تزورها إلا قلة قليلة من الزبائن، فيما أكثرية الداخلين إليها يفضلون إلقاء نظرة على موضة الموسم وانتظار خفوضات الأسعار، بحسب روزي جبور، البائعة في أحد المحال المتخصصة بالأزياء النسائية.
«وكأن الناس نسيت كل العادات والتقاليد وتوقفت عن شراء الهدايا والثياب الجديدة» تقول جارتها سعاد، التي تعمل في مجال بيع الأحذية النسائية منذ سنوات طويلة، لكنها سرعان ما تستدرك أن «الشاري بات يفضّل زيارة المراكز التجارية الكبيرة العديدة في البلد، بدل الدخول إلى سوق طويل والتنقل بين المتاجر». لذلك، يعدّ الحافز الأول لتزيين سوق الجدَيْدة والنيوجدَيْدة إضفاء نكهة العيد على الأسواق التجارية، ما يستقطب الزبائن ويحرّك العجلة الاقتصادية كما يشرح رئيس بلدية الجديدة أنطوان جبارة. ويفسر أن السبب الأول خلف هذا الاهتمام الكبير بالزينة هو «محاولة إنعاش السوق التجاري الذي يشهد تراجعاً كبيراً عام بعد عام». الزينة في منطقة الجديدة لا تتبدل كل عام، بل يُضاف إليها ما هو جديد، ويجري تبديل مكان تعليق الزينة القديمة بين الساحات والشوارع، فيبدو للناظر إليها أنها زينة جديدة في كل عام.
تساعد زينة الشوارع والمناطق على إعطاء شهر كانون حقّه من الفرح والسعادة، اللذين يرافقانه في كل عام، فدفء الأضواء والزينة يؤديان دوراً أساسياً لاستحضار جو العيد والاحتفال.




كما في قصص الأطفال

تتفوق المراكز التجارية الكبيرة في لبنان كل مرة على نفسها في استحداث زينة عيدي الميلاد ورأس السنة. التنافس هنا واضح تماماً كما الاهتمام بصناعة الأجمل. أموال طائلة تُصرف كل عام لمصلحة شركات الهندسة الداخلية لتزيين المولات تتعدى النصف مليون دولار، إضافة إلى العروض المسرحية ونشاطات الأطفال، التي تعمل الإدارة على تفعيلها بالأخص في الفترة التي تتوافق مع العطلة المدرسية، لأن الوجهة المفضلة للعائلة اللبنانية للترفيه باتت المجمعات التجارية الكبيرة. لا يمكن القول إن زينة مجمع من المجمعات الكبيرة تطغى جمالاً على مجمّع آخر، إذ تحتار العين في التصنيف. زينة ضخمة وأشجار عملاقة وألوان مبهرة تماماً كما اللوحات المرسومة في كتب الأطفال، لا يشبع المرء من النظر إليها.