عندما شاءت الأيام أن أنزح إلى المدينة الكبيرة «بيروت» من أجل التحصيل الجامعي، اعتدت أن يسألني زملائي عن مكان ولادتي الأصليّ، وأن أجيب ببساطة: «أنا من عكّار»، ليردّ السائل بلهجة العارف: «آه، يعني أنتِ من طرابلس». كلّا عزيزي، لست من طرابلس، أنا من عكّار، وعكّار ليست طرابلس، عكّار شيء وطرابلس شيء. أنا من قرية في عكّار، صغيرة، ونائية، وإن قلت اسمها، لن يتعرّف عليها أحد، وبالنسبة لأهالي القرى النائية، مِثلي، فطرابلس هي المدينة البعيدة، العالم الآخر، المرّيخ.طرابلس كانت، ولبرهة كافية من الزمن، المدينة الوحيدة التي أعرفها. يكفي أن تدفع لباص من حلبا 500 ليرة فقط، لتصل إلى عالم الزحمة والأبنية الشاهقة ومحال الألبسة الفاخرة، نسبياً. منذ عشر سنوات، كانت تكفيك مئة ألف ليرة لتأخذ العائلة بجميع أفرادها إلى مطعم «الحلّاب»، وتلتهموا معاً اللّحم بعجين، المعدّ بطريقة مميّزة، لم أجد مثلها حتّى الآن، ثمّ تجولوا معاً في أرجاء المدينة، وصولاً إلى الميناء، للتمتّع بمسيرة هادئة على الكورنيش.

طرابلس مدينة لطيفة، بروائحها وهندستها وأصواتها. في كلّ زاوية فيها لك مكان، أنت الفقير أو الغنيّ، ابن القرية النائية تعرفك، وتستقبلك بلهفة. لن أدّعي أنّ علاقتي بها مميّزة، فربما لكلّ من معارفي ذكريات لهم فيها. ولكنني أفرح لمجرّد التفكير أنّ طرابلس حضنت الكثير من أوقات اللهو في طفولتي.
في أيّام الأعياد هي مقصدنا الوحيد لشراء
كلّ مستلزمات هذه الفترة من السنة الألبسة من شارع «عزمي» الشوكولا من «شوكو فرانس» في شارع الجميزات


نعم يعرف الطرابلسيون الروك وزياد الرحباني واللغة الفرنسية وليس بالضرورة حسين الديك فقط!
في أيّام الأعياد، هي مقصدنا الوحيد، لشراء كلّ مستلزمات هذه الفترة من السنة، الألبسة من شارع «عزمي»، الشوكولا من «شوكو فرانس» في شارع الجميزات حيث كان منزل جدّي. أسير إلى جانب والدتي التي تصرّ على إمساك يدي بقوّة أنا وأختي حتى لا نغيب عن ناظريها ونتوه في عباب «المدينة الكبيرة»، وفي كلّ زاوية من زوايا الشارع الذي حضن شبابها تخبرني قصّة وذكرى، تجعلني أتمّنى كثيراً لو أنني تربّيت في طرابلس أيضاً، طرابلس السبعينيات والثمانينيات، التي لفظت عنها كلّ الأجسام الغريبة وقاومت الجهل والتطرّف.
الموسيقى لا تختفي من طرابلس، في زاوية من زوايا محلّة «التلّ»، حيث الساعة وموقف الباصات التي تنقل الركاب، يقبع متجر موسيقى صغير، «شافت»، فيه كلّ شيء، حرفياً كلّ شيء. نصف الكاسيتات المكدّسة في مكتبة منزلنا منه، كاسيتات لفرقة الروك التي اشتهرت في السبعينيات «بينك فلويد»، كاسيتات للشيخ إمام، «العقل زينة» لزياد الرحباني، كلاسيكيات فرنسية لداليدا وجو داسان، نعم، كلّها من محلّ غنيّ رغم ضيق حجمه، وفي طرابلس! نعم، يعرف الطرابلسيون الروك وزياد الرحباني واللغة الفرنسية وليس بالضرورة حسين الديك فقط.
لا يمكنني أن أمتنع عن مقارنة بيروت بطرابلس، لأنني كلّما مررت بمدينتي القديمة، أشعر بالفرق، أرى طرابلس جميلة جدّاً ومألوفة وقريبة رغم كلّ ما فيها من عيوب، وأرى بيروت الغريبة الضيقة المربكة. أخشى أن تضمحلّ طرابلس من ذكرياتي على حساب المدينة الجديدة، وأتحوّل إلى الغريبة القادمة من بيروت، أجول في مدينة في الشمال، وأتوه في شوارعها ولا أتذكّر منها سوى ما أخبرني أهلي عنها. صحيح، تغيّرت طرابلس كثيراً في عقد واحد من الزمن، ولكنّ هناك ثوابت فيها لا يمكن أن تموت، بائع الكعك، الحلّاب، الميناء، الساعة. هي علامات فارقة، في جزء بسيط منها، تجعلها هذا الكائن الذي مهما حصد من شبابه الزمن يبقى هو نفسه، لا يشبه أحداً.