يمكن لمحرّك «غوغل»، مرجع العالم، أن يوضح لسائلهِ الكثير من الأشياء. إن سألته مثلاً: كيف نكتب مقالاً علمياً أو صحافياً أو أدبياً؟ لكنه سيعجز حتماً عن مساعدتك في كتابة مقال عن مدينة صارت، بالصدفة وبحكم تكرار العيش فيها، مدينتك. هنا باريس. كما لو أن هذا يحدث الآن، وفي لحظات الكتابة هذه. أذكر عندما وصلتها، في نهايات مراهقتي، بداية تسعينياتها. كنت أعتقد أني سأرى مسرحاً بعروض مستمرة، وسأشهد عروض الأزياء في الشارع. ألم يكن اسمها ــ ولا يزال ــ «عاصمة الموضة»؟ تكتشف بسرعة أن الموضة المقصودة هنا لا علاقة لها بموضة الشارع وتعب الناس اليومي وكدّهم. الذين يسمّونها «عاصمة الموضة» يسوّقون موضة دور الأزياء الراقية وحسب، «كوكو شانيل» وأخواتها.
نحن في بيروت «منعرف نلبس أحسن منهم» قالت صديقة أمامي، ذات مرة، إذ أصابتها دهشتي ذاتها حين رأت «موضة العاديين» في الأماكن العامة. ملابس الناس عاديّة. ثانية صدماتي في المدينة، وباريس مدينة حقيقيّة، كانت اكتشافي أن لا وجود لجبنة «بيكون» هنا. وفي بيروت، كان هذا نوع الجبن المفضل لدي. ٣٦٥ نوعاً من الأجبان، والـ«بيكون» ليست بينها! طيب...
لماذا «فلقنا» الإعلان الشهير بتلك الجملة ذات اللحن النوستاليجي... «جبنة بيكون جبنة فرنسية.. من جبال الألب طعمتها شهية»؟ «ربّما تكون معدّة فقط للتصدير إلى الخارج»... يأتيك تفسير. ومرّت سنوات. غرّدت مرة عبر «تويتر» عن باريس. قلت: «أصدقائي المارّون في باريس للسياحة أو للعمل٬ إن كنت أعيش فيها منذ دهر فهذا لا يعني بالضرورة أن أعرف كم عمق مترو الأنفاق، أو أين تكون أعلى نسبة للتلوث فيها، أو إن كان نابوليون بونابرت ينام جلوساً، أو إن صغر حجم السرير له علاقة بقصر قامته. هل يهم فعلاً إن قلت لكم إنكم ستحتاجون الى ١٧٤ ساعة لرؤية الـ٣٥ ألف تحفة في متحف اللوڤر؟ هذا في حال توقفتم دقيقتين أمام كل تحفة وبمعدل ٨ ساعات في اليوم. هل يهمّ إن قلت إنني أمضيت ١٠ أعوام في هذه المدينة ولم أقم بزيارة المتحف إلا عندما قررت، ذات مرة، مغادرتها نهائياً؟ حسناً، لا يهم. ذات مرة، في منتصف التسعينيّات، أخبرني المخرج الراحل عمر أميرالاي نصف خبر عن باريس أثار دهشتي (مجدداً). قال: إنّ «نظافتها الزائدة تخفي قذارة داخلية» واتفقنا آنذاك على أنها رتيبة ومملة، رغم أنها لا تنام. كان صادقاً كما في أفلامه.

لكن الأمور تغيّرت اليوم. أسمح لنفسي بالقول إنّ النظافة تتضاءل، رغم أن حجم براز الكلاب على الأرصفة قد تراجع٬ وبأنني لست متأكدة إن كانت باريس فعلاً لا تزال تسهر طوال الليل. «مدينة الأنوار» لم تعد كما في السابق٬. برج «إيفل» صار يلمع بنسبةٍ أقل، ولم يعد يسهر طوال الليل. وإلى ذلك، يكثر عدد الشوارع التي تستغني باكراً عن أضوائها بغية توفير الطاقة. كثرت المتاجر، من النوعيّة التي ما إن تقترب الساعة من السابعة مساءً حتى ترفض بيع علب السجائر. حتى نظام وجبات الأكل، في مطاعم كثيرة، قد تبدّل، إذ صار التوقيت بين منتصف النهار والساعة الثالثة بعد الظهر للغداء٬ وبين السابعة والحادية عشرة ليلاً للوجبة الأخيرة. قبل هذه المواقيت وبعدها عليك أن تتدبر جوعك «بالتي هي أحسن»!
هل يهم إن قلت إنك في حال التزمت بهذه المواعيد، وطلبت قطعة لحم «ڤيري ويل دَنّ»، قد يحلو للـ«شيف» أن يقول لك إنه لا يقدم في مطعمه «نعال أحذية»، فتتخلى فوراً عن فكرة طلب «كاتشاب» كعنصر مرافق للطبق؟ حتماً لا يهم. هل يهم إن قلت إنّ هناك مبادرات تنظم ألعاباً في أحياء كثيرة من باريس٬ كلعبة «فك اللغز» التي تتطلب منك البحث عن أدلة من مكان إلى آخر، لمدة ساعتين، لتكتشف في النهاية أنك لم تكن الأول الذي تمكّن من حلّ اللغز٬ وبأنك كنت تعتقد أنك تعرف منطقة «مونمارتر» مثلاً مثل اسمك، ثم تنتبه إلى أنّ ثمة أشياء من حولك تنظر إليها يوميّاً ولا تراها؟
ماذا بعد؟ «أخلاق العجائز». الشعور بأن العنصر الشاب صار نادر الوجود في المدينة، وبأنها صارت هرمة، لا تتقن إلا قول كلمة «لا». لا للسيارات. لا للمتاجر يوم الأحد. لا للضجيج٬ لا للفرح... لكن مهلاً، رغم ذلك٬ لا تزال باريس قادرة على إثارة دهشتك، وهذا مهم حقاً. في النهاية، لا أعرف شيئاً عن هذه المدينة. وربما يجدر بنا، جميعاً، أن نتصرف هنا كما لو أننا «سائحون» إلى الأبد.