أطلق السباب للمنظمين وللبلد وللنظام الذي أجبره قبل زياد على الهجرة. الصيداوي كان يمضي إجازة عيد الأضحى في مسقط رأسه. نزل عليه من السماء خبر حفلة زياد. وأين؟ في صيدا. يشكل مكان الحدث بالنسبة إليه وإلى جيل المقاومة والفقراء إعادة اعتبار للزمن النظيف ولصيدا، بوابة الجنوب.
كان الرجل في ذروة غضبه، إنما مغتبطاً لأن وجود زياد هنا انتصار لحقيقة صيدا على إرهاصاتها الأسيرية والحريرية على السواء. وهو إذ فقد أعصابه، فلأنه لم يشهد بعينه ذاك الانتصار. في أولى الحفلات الثلاث، وقفت سيدة تفتش بين الجمهور الغفير، علّها تعثر على أحد أقرانها. حظيت بقلة من رفاق التظاهرات المطلبية بين ساحة الشهداء وساحة النجمة، مستندة إلى شعارات زياد ضد الطائفية والرأسمالية. غالبية الحضور كانت من المراهقين والعشرينيين. من بينهم من ارتدى «تي شيرت» عليها صورة غيفارا في ذكرى استشهاده. ومنهم من تشبه بمظهر زياد البسيط، فيما ارتدى آخرون بذلة أنيقة وحذاء يلمع. ومنهم، صبايا «على آخر طرز» بفستان قصير وكعب عال ومكياج بارز، وأخريات بحجاب تقليدي. التباين في الشكل تناغم مع تباين حاد في انتماءاتهم. في صف واحد، جلس الشيوعي ونجل الشيخ الصيداوي ومقربون من التيار السلفي إلى جانب مسؤول شبابي في تيار المستقبل في المدينة والسيدة الفرنسية، مديرة المركز الثقافي الفرنسي في صيدا مع زوجها الفرنسي. من خلفهما عشرات الشبان المناصرين لآل الحريري، وآخرون لا يزالون يؤيدون الشيخ الفار أحمد الأسير، وكانوا يلتزمون بالصلاة خلفه والمشاركة في اعتصاماته.
استطاع زياد جمع كل التناقضات الصيداوية تحت اسم معروف سع

سعر التذكرة الموحد (20 ألف ليرة) والمسافة القصيرة بين عين الحلوة ومكان الحفلة شجع بعض الفلسطينيين على الحضور. فلماذا استطاع زياد أن يجمع كل التناقضات الصيداوية تحت اسم معروف سعد؟ زياد نفسه لا يعلم ولا يهتم بالسبب الحقيقي. يصر على أن صيدا لا تتغير وعصية على المذهبية والتقوقع. في مداخلاته بين أغنية وأخرى، روى زياد بعضاً من «صيداوياته»، التي ذكّرت الكثيرين من أهلها بأنفسهم. في حرب التحرير، لجأ مع شقيقه إلى صيدا حيث حلّ ضيفاً على آل عبود في «القناية». سيدة منهم كانت مربية لشقيقه، فيما الأستاذ جورج عبود رفيق زياد في الحزب الشيوعي اللبناني. أما جارهم اللحّام، فيضع صورة جمال عبد الناصر فوق طاولة تحضير اللحوم. سأل زياد: «هيدي الطبقة الارتوازية (يقصد البورجوازية) شو إلها حل». أجابه: «مش إنتو بالقناية، بدها حفر».
مقدمة الرواية وحدها، كانت كفيلة بتذكيرهم أن حي القناية الذي تحول في زمن الأسير إلى خط تماس مذهبي بين عبرا وحارة صيدا، كان مسيحياً في الأساس وجزءاً من التنوع الصيداوي الطائفي الذي تستكمله شيوعية عبود في المدينة العروبية والقومية مع الشهيد معروف سعد.
في ختام حفلاته، بدا زياد مرتاحاً لأنه وجد صيدا كما هي. مرتدياً «تي شيرت» المنتخب البرازيلي «الرقم 10 الذي يوحي بالتفاؤل»، سلطن وصفق ورقص على المسرح. قال إن الإعلام يضخم الأمور عن صيدا التي «يستطيع الواحد يجي عليها ويعمل حفلات ويبقى». لم يقنعه تحذير عاطف الإبريق من الحزب الديموقراطي الشعبي بأن هجرته ستؤثر على معنويات الكثير من الشبان الذين يجدون فيه قدوة للتغيير والصمود في البلد. علق زياد: «بنسّق مع الشباب، حدا بيروح حدا بيجي لكيلا يبقى البلد وحيداً». وتعليقاً على نداء بسام حسان الذي صعد إلى المسرح ودعاه لكيلا يسافر، قال زياد «خليهن يحلوا مشكلة الكهرباء وأنا ببقى».
في صيدا، تخطى محبو زياد صدمة قراره بالهجرة. فرحة انتصارهم بأن مدينتهم لحقت حالها وأرّخت آخر حفلاته قبل سفره. الحزب الديموقراطي الشعبي بالتعاون مع التنظيم الشعبي الناصري واتحاد الشباب الديموقراطي، شكل لجنة تنظيم للحفل من شبان وشابات. «مشغول هاليومين عم نظم حفلة زياد» قال الشاب لصديقه، بفخر. هو الذي حلم برؤية زياد ولم يتمكن من حضور حفلاته إما بسبب بعد المسافة أو سعر البطاقة. قبل أن يطير إلى روسيا، تحقق حلم زياد في صيدا. القصة ليست عادية لدى هؤلاء: طارق وكريم وزياد وحسين وزياد وأحمد وفؤاد ومحمد ونور ومروان... (اتحاد الشباب) ومحمد وكمال ومحمد وعلي ونيفين وراني وسناء وربيع وفراس وفارس وعلي وهبة ... (الحزب الديموقراطي) وابراهيم وبدوي (التنظيم). اختراق حفلات زياد لتيه المدينة بين الاعتدال والتطرف وبين المذهبية وهويتها، يشكل حافزاً لإعادة النظر بواقعهم. أي صيدا يريدون وأي صيدا يمكنهم أن يصنعوا؟