عاش فوزي شحرور حياته في منطقة صبرا. مات هو، لكن صبرا لم تمت. لا تزال «حيّة». هنا القضية منطقة لا شخص، بيئة لا فرد، مصنع لا مُنتَج، عشوائية ظلام لا فوزي شحرور. شاب في أواخر العقد الثالث من عمره، قويّ البُنية، جسد مليء بالأوشام و«سكسوكة» لافتة تُزيّن وجهه... ها هو ممدّد على الأرض وقد لفظ آخر أنفاسه. قتلته صبرا، تلك الداخل إلى دهاليزها السفلى مفقود والعائد منها مولود، وهي غداً، كما كانت دائماً، على موعد مع قتيل جديد.
قتله صانع (صنّاع) صبرا، الساكتون عليها، على فقرها وحرمانها وجهلها - تجهيلها، ثم قانون الغاب بأوحش صوره، فسرقة ومخدرات واغتصاب وسلاح وخوّات وقتل... و«هي فوضى».
أيّ موبقة غير نشطة هناك؟ صبرا حكاية قائمة بذاتها. فيها عاش شحرور طفولته ومراهقته وشبابه، غادرها مراراً، إلى السجون حصراً، قبل أن يغادرها أخيراً إلى الأبد. أردته رصاصات الجيش، أي الدولة، الدولة الصانع الأول لصبرا، وذلك إثر ملاحقة استخبارية. قالوا إنه كان مطلوباً لـ«العدالة» وهذه لفظة، إن فُهمت، تُعدّ «مزحة سمجة» في تلك العشوائية الرابضة عند طرف العاصمة.
هو ليس «روبن هود»، ولا «قبضاي» الحي. ليس «زعيماً» محلياً كما قال كثيرون. تلك أوصاف كانت بمثابة التسمين له ليكون بعدها الضحية أو «الأضحية». هو فوزي شحرور وحسب. شاب فقد حياته، بطريقة كانت متوقعة، ليترك خلفه طفلين، علي ابن التاسعة وحسن الذي لا يزال رضيعاً. سيكبران غداً، في صبرا، على ذكرى والدهما، هو الذي كبر على ذكرى والده المقتول في معارك الأزقة، قبل عقود، ضمن إحدى جولات الحرب الأهلية.
قبل نحو 3 سنوات، كان وزير الداخلية السابق مروان شربل يجول في سجن رومية، مصطحباً معه وزير الشؤون الاجتماعية السابق وائل أبو فاعور. عقدا مؤتمراً صحافياً وأطلقا، كما العادة، وعوداً بتحسين الأوضاع الإنسانية للسجناء. أثناء مغادرتهما، ومن حولهما ضبّاط الأمن، دسّ سجين يده خلف قضبان نافذته، وصرخ من أعلى: «احكِ معي يا معالي الوزير». حلّ الصمت فجأة في باحة السجن. همس أحدهم في أذن شربل: «إنّه مفجّر انتفاضة السجن قبل سنوات، هنا في رومية، ومشعل سجن البترون، وقبله القبّة وكل سجن نُقل إليه، وعامل العمايل».
ربما لم تشهد
صبرا تشييعاً
ضخماً مثل تشييع شحرور


قبل 11 عاماً
شاهد فوزي مقتل أخيه محمد أمام عينيه

رفع شربل رأسه: «إيه فوزي احكيلي شو بدّك». ها هو شحرور يجيب بصوته القوي: «أنهيت مدّة عقوبتي المفترضة، وما زلت بلا محاكمة، خدني معك يا معالي الوزير يستر على عرضك». لم يأخذه شربل معه. اليوم لا بد أنه سمع خبر مقتله. هل كان الشاب يبالغ في ما قال؟ من يعرف سجون لبنان، وبيروقراطية المحاكم المُملّة، يعرف جيّداً أن ما قاله غيض من فيض الظلم، كما يعرف أن تلك السجون، وأنظمتها القاتلة، إنما تستقبل النزلاء بجنح جرمية بسيطة، لسنوات، لتخرجهم بعدها خبراء في «علم الجريمة». تخرجهم مع فائض النقمة في قلوبهم، نقمة في كل الاتجاهات، ضد الجميع، تتأجج إلى حد قتل حاملها. تلك السجون، بعد صبرا، صنعت فوزي شحرور.
قبل نحو 6 سنوات، كانت والدة شحرور في زيارة لابنها في سجن رومية، في مبنى الأحداث تحديداً، حيث المعدن المشبّك يفصل بينهما. آنذاك كان يمكن للأصابع، فقط، أن تتلامس من طرفي «المواجهة». عدد من السجناء جذبوا ابنها نحوهم، ضربوه بقسوة، سال دمه بفعل «الشفرات» على جسده. يحصل هذا بشكل عادي في السجون. كان ينظر إلى أمه وهي تنظر إليه، وتصرخ، فأبعدوها ولم تعرف مصيره. السجن «مجتمع بري» بامتياز. عادت الوالدة إلى صبرا، أخبرت أصدقاء فوزي بما حصل، ولفوزي شعبية كبيرة من المحبّين هناك. قطعوا الطريق العام وأثاروا جلبة استدعت تدخّل القوى الأمنية.
المشهد سيتكرر بعد 6 سنوات، في صبرا، مع وصول خبر مقتل الشاب، مع فارق أن شعبيته تضاعفت كثيراً. أطلق أنصاره النار في الهواء وقطعوا الطرقات. أقفلت محال صبرا أبوابها، رُفعت البسطات من السوق، تلك البسطات والأكشاك التي يديرها سوريون، وهؤلاء يعرفون شحرور جيّداً. كان «المعلم» بالنسبة إليهم، و«الكبير» بالنسبة إلى كثير من قاطني صبرا، من مختلف الجنسيات العربية. هو الذي يمكنه أن يفضّ أي إشكال داخلي يقع، لديه سلطة، صنعها بنفسه، ليكون بمثابة «المختار» هناك. الأرض غير مملوكة، مشاع، لكن فوزي ورث تنظيمها بفعل القوة، وقبل ذلك بفعل غياب الدولة، فلعب دور «وجود الضرورة». ورث الفوضى القائمة، لم يصنعها هو، إنما أعاد تشكيلها. من يعرف نمط الحياة، أو قل العيش، في تلك «العشوائيات» يعرف تماماً عمّا يدور الحديث. هناك «الحكم للقوي» وشحرور كان قوياً. «البقاء للأقوى» ولكن إلى حين، ها قد مات الشاب، لكن «العشوائية» تبقى.
قبل 11 عاماً، شاهد فوزي مقتل أخيه محمد أمام عينيه، في صبرا أيضاً، على يد رجل أمن أيضاً. أصيب يومها أثناء محاولة الدفاع عن أخيه الأكبر. كبر والحادثة في رأسه تكبر. كأن العائلة «الصبراوية» أصبحت «مسجلة خطر». في إحدى رحلاته الكثيرة إلى السجون، شاهد أمه مرّة، من نافذته، تجمع «تنك البيبسي» في الطريق. تريد، كما تقول، بيعها من أجل تحصيل ثمن أجرة الطريق لزيارة ابنها مرّة أخرى. هو الفقر مرّة أخرى. بكى الابن من داخل زنزانته، أخبرها بذلك لاحقاً، وقال لها: «سأفعل كل شيء من أجلكِ أنتِ وبقية إخوتي». وبالفعل، عندما كان يخرج من السجن كان يفعل كل شيء، تقريباً، وعداً وعهداً عليه. الوالدة، القاطنة الآن في صبرا، حيث ارتفعت في الحي صور ابنها بكثافة، حاولت الخروج من لبنان إلى المانيا عندما كان أولادها صغاراً. كانت أيام حرب. رجل أمن وفّر لها أوراق سفر مزوّرة، مقابل رشوة، كانت تريد إنقاذ عائلتها، لكنها أوقفت في المطار. لو وصلت إلى المانيا هل كان ليموت فوزي على قارعة الطريق؟ رجل الدولة زوّر لها ورجل الدولة أوقفها، هي الدولة، منها وإليها، تماماً كما كانت الاستخبارات والقوى الأمنية تستفيد من فوزي في حياته، لتوقيف المطلوبين، وكان هو دائماً يُلبّي، لكنه في النهاية لم يكن في عين الدولة سوى أداة يُستفاد منها. انتهت «مدّة صلاحيته»... فقُتل. لم تنظر إليه الدولة يوماً على أنه إنسان يحتاج إلى المساعدة والاحتضان. هكذا هي الأمور في صبرا، وفي سائر العشوائيات اللبنانية، أماكن ضنينة بألغازها وأدبياتها ومصطلحاتها على الآخرين. لا يمكنك أن تفهم ذلك العالم إلا أن تكون جزءاً منه، أو تقترب منه كثيراً، إلى حدّ إحراق نفسك.

قضاة كثر عرفوا والدة فوزي، محامون أكثر، الكلّ «ضحك» عليها... تقول متحسرة، من جهة، لكن من جهة أخرى جاهدة في إظهار صلابتها. ما من سجين، تقريباً، إلا لديه تجربة مريرة مع محام «بلا ضمير». المحامون يفهمون لغة المال. الأم صلبة، لكنها أم أيضاً، رمّلتها الحرب الأهلية باكراً وقست الدنيا عليها وعلى أولادها. تقول: «فوزي كان قلبه ميتاً، ليس قاسياً، بالعكس قلبه طيّب ولهيك هو محبوب من الجميع في المنطقة... لكن الدنيا خلّت قلبه يقسى، عاش في اليتم والفقر، ولهيك رح تلاقي أكثر مشاكله، ولما كان يطلق النار، كان يكون بسبب تعاطفه مع أشخاص مظلومين وضعاف». عام 2009 عندما فجّر انتفاضة رومية الشهيرة، كان ذلك بسبب أخذه مفاتيح غرف السجن من أحد العسكريين، عنوة، وراح يفتح الأبواب ويقول لهم أخرجوا. كأنه يريد أن يقول إن هؤلاء، أكثرهم، ضحايا مجتمع مثله، وإن من يستحق السجن هم خارجه الآن.
ربما لم تشهد صبرا تشييعاً ضخماً مثل تشييع فوزي شحرور. أعلن الحداد هناك وعمّ الحزن. قالوا: «لقد رحل حامينا». لا دولة هناك، الدولة أمنية فقط، تصطاد مطلوبيها خارج الأسوار، ولا تجرؤ أن تقترب من «العرين». يُراد لتلك البؤرة أن تبقى على حالها، كمكان نموذجي يشير إليه أصحاب البشرة الناعمة بازدراء، ليقولوا: «انظروا، هناك يعيش المجرمون». يحتاجون إلى بيئة كهذه ليُميزوا أنفسهم. شحرور مجرّد اسم ومضى إلى سبيله، لكن صبرا باقية، يكبر فيها عشرات، بل مئات، من مشاريع القتلى على الطرقات... كل هؤلاء، وفوزي شحرور قبلهم وبعدهم، هم صناعة دولة، يُقال إنها دولة، بامتياز.