منذ أوائل الصيف، ظهرت في النقاط الساخنة المركزية في مدينة برشلونة لافتات داعية لعودة السياح إلى ديارهم، حيث انضم آلاف الأشخاص إلى احتجاجات مناهضة لإقبال «الأجانب» المتزايد وسط ارتفاع تكاليف السكن.في السادس من تموز، أُقيمت تظاهرة شارك فيها ما بين 10 آلاف و15 ألف شخص بحسب المنظّمين (قالت الشرطة الإسبانية إنها ضمّت حوالي 3 آلاف فقط)، تمّ خلالها استهداف السياح الأفراد أثناء شربهم القهوة أو تناولهم الغداء، وحاصرَ المحتجون الفنادق والمطاعم.
الهدف من وراء ذلك يكمن في رفع الوعي العالمي حول التأثير السلبي للسياحة على معيشة الإسبان عموماً والبرشلونيين على وجه الخصوص. وبحسب المنظّمين، المشكلة ليست شخصية مع السائح، بل إن الطرف المسؤول بالدرجة الأولى هم القيّمون على النظام الاقتصادي بأكمله.
العديد من المشاركين في التظاهرات اعترضوا، ولا يزالون، على تحويل الاقتصاد الإسباني إلى اقتصاد سياحي. فرغم العائدات الهائلة التي يولّدها الإقبال الزائد على مدينة برشلونة إن كان للمناخ أو الطعام أو الهندسة المعمارية وفوق كل ذلك مشاهدة فريق «البلوغرانا» لكرة القدم، تعتلي تكاليف الإسكان المرتفعة مخاوف المحتجين حيث هناك تأثير سلبي كبير للسياحة على حياة السكان المحليين يطاول نقص الإسكان مع تحويل الشقق إلى إيجارات للعطلات، دون إغفال تضخم أسعار السلع والخدمات، والتلوث وتآكل حقوق العمال وتدهور التراث... ووفقاً لموقع «Idealista» العقاري، ارتفعت أسعار الإيجار في برشلونة بنسبة 18% خلال العام الماضي. وعلى مدار العقد المنصرم، ارتفع الإيجار بنسبة 68% وزادت تكلفة شراء منزل بنسبة 38%، ما جعل المدينة غير صالحة للعيش بالنسبة إلى السكان المحليين.
الوضع المظلم للنادي الكتالوني من شأنه أن يتفاقم على خلفية التظاهرات السياحية الحاصلة أخيراً


في هذا الإطار، وللحؤول دون تفاقم سوء الوضع، حدّد مجلس مدينة برشلونة خطوات استجابة للضغوط المتزايدة على السياحة الجماعية، حيث قال عمدة المدينة جاومي كولبوني بعد التظاهرة في تموز: «إرادتنا والتزامنا بالحد من تضخم السياحة وعواقبها على المدينة ثابتان». وتحدّث كولبوني قبل شهر عن خطط للقضاء على أكثر من 10000 من أماكن الإقامة القصيرة الأجل، مثل تلك المتاحة على «Airbnb»، بحلول تشرين الثاني 2028، وإعادتها إلى الاستخدام السكني مع اتخاذ تدابير أخرى منها الحد من عدد المجموعات السياحية وزيادة الضريبة السياحية في الليلة...
تجدر الإشارة إلى أن هذه المرة ليست الأولى التي يتخذ فيها عمدة برشلونة مثل هذا الإجراء. ففي عام 2017، قدّمت العمدة السابقة آدا كولاو أيضاً «سياسات مناهضة للسياحة».

كامب نو في خطر
بعيداً عن صحة الاحتجاجات من عدمها، سيكون لكبح السيّاح وترهيبهم آثار وخيمة على معلم مدينة برشلونة الأهم: ملعب كامب نو. عليه، من المرجّح أن يعاني نادي برشلونة لكرة القدم، المأزوم سلفاً، من كارثة جديدة قد تضع المسمار الأخير في نعشه المهترئ نتيجة تدهور حالته المالية.
لا يخفى على أحد تردّي الوضع المالي في نادي برشلونة إثر فسادٍ متجذر تجلّى في عهد الرئيس السابق جوسيب ماريا بارتوميو. الحالة اليائسة يعكسها نشاط النادي في أسواق الانتقالات الأخيرة، منها «الميركاتو» الصيفي، حيث اضطر فريق برشلونة إلى بيع متوسط ميدانه الألماني إلكاي غوندوغان ذي الأجر المرتفع في محاولةٍ لموازاة حساباته الدفترية، كما أنه عانى الأمرّين قبل أن يتمكن من تسجيل الوافد الجديد داني أولمو.
في السنوات الأخيرة، تراجعت أسهم نادي برشلونة بين الكبار على خلفية الأزمة المالية العاصفة بأسواره، والتي أودت قسراً قبل غوندوغان بلاعبين بنوا مجد النادي الحديث، أهمهم الأرجنتيني ليونيل ميسي بعد صعوباتٍ في تسجيله وفي دفع أجره. وترافقَ مع الأزمة انخفاض في ظهور «البلوغرانا» على الساحة الأوروبية، وتحديداً في دوري أبطال أوروبا الغائب لقبه عن خزائن النادي منذ عام 2015.
الوضع المظلم للنادي الكتالوني من شأنه أن يتفاقم على خلفية التظاهرات السياحية الحاصلة أخيراً. تبعاً لموقع «The Athletic»، هناك 52% من تذاكر مباريات فريق برشلونة تُباع في المتوسط ​​​​لأشخاص من خارج إسبانيا. وخلال موسم 2022-2023، بلغت إيرادات التذاكر لنادي «البلوغرانا» 71.6 مليون يورو، منها 37.3 مليون يورو جاءت من التذاكر المبيعة للسياح. هذه الإحصائية تجعل القيمين على النادي يراقبون عن كثب نتائج التظاهرات، لكنها في الوقت نفسه تبرر ربما مطالب المحتجين الذين يجدون أنفسهم خارج أسوار كامب نو لقلة التذاكر أو حتى الذين يتأثرون بالأجواء التشجيعية السلبية من داخل الملعب نظراً إلى انشغال أغلب الجماهير-السياح بالتقاط «السيلفي» وحصد التذكارات.
في المقلب الآخر، يُظهر تقرير نشره نادي برشلونة سابقاً الدور الكبير الذي يلعبه السياح في تحريك العجلة الاقتصادية المحلية. واستعان «البلوغرانا» بشركة الاستشارات «PwC» التي خلصت حينها إلى مساهمة نادي برشلونة خلال موسم 2018/2019 بتأمين ناتج محلي إجمالي للمدينة بمقدار 1.46%، مع خلقه نحو 19500 وظيفة بالإضافة إلى إيرادات ضريبية بلغت حوالي 366 مليون يورو. هذه الأرقام تغيّرت بعدها على خلفية جائحة كورونا وتراجع نتائج الفريق، لكنّ العلامة التجارية الضخمة لنادي برشلونة تجعله دائماً معلماً سياحياً جذاباً.
إذاً، هي مشكلة متشعّبة ذات ضررٍ ثلاثي. سكان برشلونة يطالبون بمنع مجيء السياح الذين يساهمون، بحسب قولهم، في فقرهم وتراجع مستوى معيشتهم، علماً أن وجود السياح بحد ذاته يعزز الحالة المالية لنادي المنطقة الأبرز الذي يستغل بدوره أموال «الأجانب» لتحسين المدينة وسكانها. الوضع الصعب يجعل من الأصعب وجود حل يرضي مختلف الجهات، إلا في حالة التنازل والوصول إلى تسوية عادلة. في النهاية، من حق سكّان برشلونة العيش بأريحية، تماماً كما يحق للنادي أن يزدهر وأن يأتي السياح لمشاهدة فريقهم المفضّل.