لطالما ردّدنا أنّ كرة القدم ليست مجرّد لعبة، واليوم نقول إن مواجهة المغرب وفرنسا ليست مجرّد مباراة، بل هي امتداد لمعارك وحروبٍ طويلة عرفها البلدان عبر التاريخ. وها هو المغرب اليوم يريد أن يكتب تاريخاً خاصاً من خلال بلوغه نهائي كأس العالم، ولما لا تحقيق المعجزة بالفوز بالكأس الأغلى، لكن عليه أوّلاً أن يهزم «الجيش الفرنسي» المتسلّح بلقب بطل العالم.إذاً بين المغرب وفرنسا قصصٌ توارثها الشعب المغربي، الذي يبدو غالباً يتحدث باللغة الفرنسية ويدمجها بلغته الأم، لكنه لجأ مراراً إلى لغة السلاح، رداً على حروب فرضها الفرنسيون المعتدون، وكان أوّلها بعد الثورة الفرنسية وحروب نابليون بونابرت، حيث أظهرت فرنسا اهتماماً متزايداً بالمغرب عام 1830، عبر خططها الاستعمارية الهادفة إلى «سرقة الثروات»، وضمن سعيها إلى توسيع دائرة نفوذها في شمال أفريقيا بعدما «فرضت سطوتها» على الجزائر وتونس، فكانت أن حلّت الحرب الفرنسية - المغربية الأولى عام 1844، وذلك نتيجة تحالف المغاربة مع «عدو فرنسا» الأول في المنطقة وقتذاك وهو الأمير عبد القادر الجزائري.
وفي مطلع القرن العشرين تجدّدت الصراعات، وتحديداً بين عامَي 1907 و1911 حتى تمّ فرض ما عُرف بالحماية الفرنسية على المغرب في 30 آذار 1912 وامتدت حتى حصول المغرب على استقلاله عام 1956.
2000 شرطي تمّ تجنيدهم في العاصمة الفرنسية باريس لمواكبة المواجهة الحسّاسة


في الشارع والسياسة
استقلالٌ لم ينهِ شدّ الحبال والصراعات، إذ أطّلت بأشكالٍ أخرى، منها المواجهات بين أبناء المهاجرين والشرطة الفرنسية في أكثر من مناسبة، والتي قيل أن ذوي الأصول المغربية كانوا من المشاركين فيها بقوة من مبدأ رفض اعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية وتهميشهم في أطراف المدن الرئيسية وسط معاناة قسمٍ كبيرٍ منهم من الفقر والبطالة.
كما اتخذ الصراع المغربي شكلاً آخر منذ العام الماضي وامتداداً إلى الأشهر القريبة الماضية وسط غضب شعبي في المغرب مع استمرار رفض السلطات الفرنسية منح عدد من المغاربة تأشيرات دخول إلى أراضيها، وقد تمّ بالفعل رفض سياسيين، رجال أعمال، أطباء، وموسيقيين. خطوةٌ ذكرت تقارير غربية بأنها تأتي في إطار انزعاج فرنسا من الوجود الاستثماري المغربي في غرب وشرق القارة الأفريقية حيث يمثّل تهديداً لمصالحها.
أحداثٌ وتواريخ لم تغب عن بال المغاربة لدرجة أنّ فرنسا أُحرجت عندما التقت مع «أسود الأطلس» قبل 15 عاماً في مباراةٍ ودية انتهت بالتعادل (2-2) على «استاد دو فرانس» في ضاحية سان دوني الباريسية، وهي من الضواحي التي تستقطب المهاجرين الذين يعانون من نقصٍ حادّ في الخدمات هناك بفعل إهمال الدولة الفرنسية.
صفّارات استهجان عند عزف النشيد الوطني الفرنسي من قبل العدد الأكبر من الجمهور الذي فاق الجمهور المحلي في الملعب الذي يتسع إلى 80 ألف متفرج، وغابة أعلام مغربية أحاطت بالملعب وتركت مشاهد صادمة بالنسبة إلى الفرنسيين الذين بدوا وكأنهم يلعبون خارج أرضهم، ما دفع قائد «الديوك» وقتذاك ويليام غالاس إلى الخروج علناً ليقول: «يجب أن نفعل شيئاً حيال هذا الأمر غير المقبول»، في إشارةٍ منه إلى ما شهده من عددٍ محدود للراية الفرنسية مقارنةً بنظيرتها المغربية، التي عادت وأطلت بقوة خلال الليالي المونديالية في باريس وغيرها من المدن الأساسية التي عرفت اشتباكات مع الشرطة، لذا تمّ تجنيد 2000 شرطي في العاصمة عشية اللقاء المرتقب.


العالم ضد فرنسا!
الواقع أنّ فرنسا ستشعر الليلة أيضاً بأنّ المغرب سيلعب على أرضه، وهي بعيدة جداً عن الديار، إذ إن الواضح أنّ العالم كلّه (ما عدا الفرنسيين) يريدون سقوط البطل، ولكلّ طرفٍ أسبابه، وهي تبدأ من التفاف العرب في مونديالهم حول ممثلهم الأفضل أي المنتخب المغربي، وتمرّ بلهفة المتابعين لدعم «الحصان الأسود» في أي بطولة بسبب المشاعر التي يتركها وأبرزها النضال والتضحية من أجل الوصول إلى الهدف المنشود، وآخرها التعاطف مع القارة الأفريقية التي كسرت أخيراً «التابو» الذي لازمها منذ الأزل. أضف إلى أن المغرب عرف حالة استنفار شعبي في الأيام الأخيرة لدرجةٍ أن شركة الطيران المحلية الأساسية قامت بتسيير 30 رحلة خاصة للمشجعين من أجل مواكبة منتخبهم في قطر.
إنها الحرب فعلاً، وتبدو فرنسا هذه المرّة من دون حلفاء، لكن مع جنودٍ يعرفون تماماً أن مدرب المغرب وليد الركراكي وُلد في بلادهم وخاض مسيرةً طويلة في «ليغ 1» و«ليغ 2» هناك، لا بل إنه كان زميلاً لأحد نجوم «الزرق» في هذه البطولة وهو أوليفيه جيرو عندما لعبا سويّاً مع فريق غرونوبل قبل 15 عاماً. كما أن عدداً لا بأس به من اللاعبين المغربيين ولدوا في فرنسا أو نشؤوا فيها كروياً أو صقلوا موهبتهم واحترفوا هناك، ومن ثم تحوّلوا إلى نجومٍ في هذا المونديال، أمثال ثنائي فريق أنجيه، عز الدين أوناحي وسفيان بوفال.
ها هي الفرصة قائمة لتغيير مجرى التاريخ، ولكسب جولةٍ رياضية في معركةٍ استراتيجيةٍ قائمة وسط جوّ مسموم سياسياً، واحتفالي كروياً، فالانتصارات المغربية المتتالية في مونديال 2022، حوّلت الكلام كلّه نحو منتخبٍ شارف إنجازاً خرافياً لا يبدو بعيداً عنه الآن سوى 180 دقيقة.