يؤكد محمد صالح، وهو مراقب فني يعمل في مكب البصّة (عشرة كيلومترات جنوبيّ اللاذقية)، أن «لا صحافيّ زار المكبّ، رغم كل ما كُتب عنه في اﻹعلام السوري». ويضيف «نبذل جهوداً كبيرة للتخلص من مشاكل المكبّ المزمنة، ولكن لا أحد يقدّر هذا التعب، خاصة جماعة اﻹعلام».محمد، التابع رسمياً لـ«مؤسسة اﻹنشاءات العسكرية ــ فرع اللاذقية»، يعمل يوميّاً من السابعة صباحاً حتى الخامسة أو السادسة مساء، تبعاً لوتيرة قدوم شاحنات «الردميات». تأتي الشاحنات من مناطق مختلفة، بغية ردم النفايات بشكل صحي ومقبول، عبر وضع غطاء فوقها من تربة بازلتية كتيمة. ما يسهم في الحد من انتشار اﻷوبئة، ويمنع ظهور نوافير غاز الميثان، الناتجة عن دفن النفايات العضوية مع البلاستيكية مع غيرها بطرق عشوائية منذ أكثر من أربعين عاماً. تتسبب تلك النوافير في اندلاع الحرائق ليلاً ونهاراً، ينافسها في ذلك نبّاشو القمامة، الذين يشعلون الحرائق قصداً، لإفساح المجال لنفايات جديدة، قد تحتوي على مواد قابلة ﻹعادة التدوير، خاصة الأواني البلاستيكية، التي تشكل «غنيمةً» لهم!
إلى جوار محمد، هناك عدد محدود من العمال يشتغلون على قلب المكبّ، بهدف إيقاف مسلسل الحرائق والروائح المستمر منذ عقود. قلة قليلة من اﻹداريين تتجرأ على الوصول إلى ساحات المكب، فالحياة داخل المكب مليئة بما لا يخطر على البال، من مخاطر وذباب وفئران وروائح قاتلة، من دون إجراءات صحية لوقاية العمال.
ما يقوم به محمد، هو توجيه السيارات المحمّلة بالبازلت، إلى مناطق معينة، هي اﻷكثر احتواءً حالياً على بؤر اشتعال الحرائق. إضافة إلى إنشاء ممرات كتيمة بين أنحاء المكب، كي تصلها سيارات اﻹطفاء في حال اندلاع حريق. خلال وجودنا في الموقع، اشتعلت النار في بقعة من المكب بكثافة، جعلت دخانها يغطي المكان والمناطق المجاورة. بعد ربع ساعة تقريباً وصلت سيارة إطفاء، سارع رجالها إلى إغراق الحريق بالمياه.
يمتد المكب على مساحات شاسعة، قرب شاطئ رملي، وأراض زراعية، وقد ترك أثره البالغ السوء على المياه الجوفية. الحل المعمول به اﻵن (ردميات بقيمة 300 مليون ليرة تنفذها «اﻹنشاءات العسكرية» لمدة نصف عام تقريباً)، لن يُلغي استمرار تلوث المياه الجوفية الذي وصل إلى حدود مُرعبة، فاقمت معاناة اﻷهالي من تملح التربة والمياه في وقت واحد.
نتجول مع محمد في الساحة الرئيسية للمكب، الذي تجاوزت مساحته 300 هكتار، بعد أن كان يفترض إغلاقه منذ عام 2010، إثر وصوله إلى طاقته الاستيعابية القصوى. ومن المنتظر الانتهاء من بناء مكب جديد (مكب قاسية) قرب قرية السامية، سيراعي التوسعات المستقبلية، ويتخلص من القمامة «بطريقة صحية». وسيضم المكب الجديد مناطق مخصصة لكل نوع من النفايات. يقول محمد: «مكب البصة أصبح عجوزاً وقد حان وقت دفنه وتوديعه. لكننا، على ما يبدو، سنبقى هنا حتى نهاية الشتاء».