تسند أمل (16 سنة) ظهرها إلى سور القصر العدلي وسط العاصمة دمشق، وتجول بعينيها بين المارة لتقنص لحظة «غفلة» منهم، وهي تخرج ثديها بشكل جزئي لإرضاع ابنتها التي لم تبلغ سنة بعد. أمل ابنة إحدى قرى القلمون، لم تتمكن من إكمال تعليمها «بسبب الحرب» وتركت المدرسة في الصف الخامس الابتدائي. تقول: «عندما بلغت الرابعة عشرة بدأ أعمامي وأخوالي بجلب العرسان لي ليستقر الأمر أخيراً على شاب (من القرية) كان يعمل في الحدادة. وبالفعل تزوجنا (قبل عام) ولكنه كان يعاملني بعنف شديد، ويتعاطى الحشيش، ما دفع والدي إلى تطليقي منه». وتضيف «لكنّ القصة لم تنته هنا، إذ أنكر زوجي حملي منه، واليوم أقوم برفع دعوى لتثبيت نسب ابنتي، لأن زواجي لم يكن مسجّلاً لدى المحكمة».يشرح مسؤول «جمعية نور للإغاثة والتنمية» في ريف دمشق، عبد اللطيف البني، لـ«الأخبار»، معاناة منطقة التل ومحيطها من تفشّي ظاهرة زواج القاصرات، ويوضح أنه «رغم وجود قوانين تمنع تزويج الفتيات دون سن الثامنة عشرة، يتجاهل عدد من المشايخ تسجيل واقعة الزواج، ويكتفي بعقد القران بشكل شفهي وبحضور شهود من العائلة والأقارب». ويتابع البني: «قمنا منذ سنوات بحملات توعية ضمن مدينة التل، لكن هذه الحملة لم ترق كثيرين من أبناء المنطقة، وأحد المسؤولين من حزب البعث في المنطقة رفع كتاباً لتوقيف الحملة بحجة أنها تنشر ثقافة وعبارات تسيء إلى الدين والعادات والتقاليد». ويضيف أن «وقف هذه الظاهرة يحتاج إلى رفع الوعي وتطبيق القوانين، فنحن لم نشهد أي حالة توقيف لولي أمر أو شيخ عقدا قراناً بشكل يخالف القوانين».
لم تخالف سلام ( 15سنة) تعاليم والدتها، وأجابت بنعم عندما سألها عمّها والشيخ من خلف الباب عن موافقتها على الزواج من ابن عمّها سالم، الذي يكبرها بسبع سنوات. تقول سلام: «أخرجني والدي من المدرسة قبل نهاية الفصل الدراسي الثاني بشهر، وقال لي لقد خطبك ابن عمك، والبنت ليس لها سوى منزل زوجها. بكيت كثيراً وامتنعت عن الطعام، إلا أن والدتي ضربتني كي آكل، وأسمع كلام والدي». وتتابع الحديث إلى «الأخبار»: «اليوم يقوم أهلي بتجهيزي للزواج ثالث أيام عيد الأضحى. لا أريد الزواج حالياً من أي شخص، وأريد أن أكمل دراستي، لكن والدي يقول لي: احمدي ربّك أنك أخذتي التاسع، أخواتك تزوجوا قبل ما ياخدوا الشهادة». والد سلام، وهو من قرى القنيطرة، يقول: «نحن نعيش في زمن صعب، وخاصة مع وجود الواتس أب وغيره. لذلك من الأفضل تزويج البنات والشباب حتى ينستروا». وعن القوانين التي تمنع تزويح الفتيات دون الثامنة عشرة، يقول أبو سلام: «نحن نتبع شرع الله، ولم أسمع أن أحداً سُجن لأنه زوّج ابنته وأراد أن يسترها. هذه القوانين ليست لنا، وحقوق ابنتي يحفظها الناس ونحن سنقيم عرساً كبيراً، ويوجد شهود كثر على كتب الكتاب».
يرى قانونيون أن جزءاً من الحل هو نبذ هذه الظاهرة اجتماعياً


تقول الاختصاصية النفسية في «الهلال الأحمر العربي السوري»، عليا الشماط، وهي مدرّبة في مجال العنف القائم على النوع الاجتماعي والدعم النفسي الاجتماعي، في حديث إلى «الأخبار»، إن «ظاهرة زواج الصغيرات/ القاصرات ازدادت خلال السنوات الأخيرة، لأسباب كثيرة، أبرزها الأعباء المادية المتزايدة على الأسر، وفقدان المُعيل والرغبة في ضمان مستقبل الفتيات من خلال تزويجهن (على حدّ زعمهم)، ولا ننسى المسبّب الأساس لهذه الظاهرة، ألا وهو العادات والتقاليد وحصر دور المرأة في عملية التزاوج والإنجاب». وتتابع الشماط أن «استثمار الأهل لإمكانية عقد القران دون تثبيته أساساً في سجلات الدولة، يتيح التهرّب من القوانين التي يمكنها منعهم (إن وجدت)، وهو ما يملي إعادة النظر والتفكير في الحلول المقترحة لهذه القضية، عبر سن التشريعات والقوانين اللازمة ونشر التوعية بمخاطر الزواج المبكر».
تناقل عدد من الناشطين خبر إلقاء فتاة بنفسها من نافذة منزلها في الطابق الرابع في «حي القلعة» بمدينة السويداء، محاولة الانتحار. وبعد التحقيق، اتضح أن الفتاة البالغة من العمر 16 عاماً، والمنحدرة من ريف المحافظة الجنوبي، رمت نفسها بعد تعرضها للضرب على يد والدها، وحبسها داخل غرفتها. الفتاة خُطبت قبل نحو شهرين رغماً عنها، إلى قريب زوجة أبيها. وتعرضت للضرب المبرح بالعصا من قبل والدها. «منظمة توليب لدعم المرأة و الطفل» أوردت نقلاً عن «مصدر مقرّب» أن والد الفتاة قام بدفع رشوة إلى الشرطة في مستشفى السويداء الوطني عند صوغ «ضبط» حادثة الانتحار، ليكتب فيه أنها «سقطت عن الدرج». الناشط في القضايا المدنية، شادي صعب، قال لـ«الأخبار»: «مع الأسف نعاني في السويداء من انتشار ظاهرة تزويج الطفلات، كما باقي المجتمعات الشرقية... وعلينا أن نميز في السويداء بين مجتمعين، الأول ملتزم بتعاليم الدين والعادات والتقاليد، والآخر أكثر تحرراً وانفتاحاً. لكن الظاهرة مع الأسف منتشرة في كلا المجتمعين، رغم تراجعها في صفوف المتعلمين والمتحررين»، مشيراً إلى أن «الحرب وتبعاتها، تسببت بعودة هذه الظاهرة بقوة». ويوضح صعب أنه «قبل عامين، قامت دار الطائفة، في مقام عين الزمان بالسويداء، بصياغة اتفاق ينص على عدم تزويج الفتيات دون السادسة عشرة، على ألا يتم تسجيل العقد المخالف لهذا الشرط في المحكمة المذهبية، وهذا الأمر تمَّ على مسامع رجال الدين الذين يعقدون القران في السويداء. لكن مع الأسف، فإن عدداً كبيراً، وخاصة في الأرياف، يقومون بعقد القران من دون الأخذ بهذا القرار».
عن الجانب القانوني لهذه القضية، تقول المحامية مها العلي، لـ«الأخبار»: إن قانون الأحوال الشخصية السوري الرقم 59 لعام 1953، ووفقاً للمادة 16 منه، يقول إن «أهلية الزواج تكمل في الفتى بتمام الثامنة عشرة وفي الفتاة بتمام السابعة عشرة من العمر»، وبذلك تضمن القانون تمييزاً بين الأنثى والذكر لجهة سن الزواج. ونتيجة المطالبات والدراسات، صدر القانون الرقم 4 لعام 2019 الذي ألغى التمييز في هذه المادة ووحّد سن الزواج بين الجنسين. وبعد آخر تعديل له، نصّ على أن «تكمل أهلية الزواج بين الفتى والفتاة بتمام الثامنة عشرة من العمر»، وبذلك ألغى التمييز وزواج القُصّر من حيث المبدأ العام، على ما توضح العلي.
وتشير في الوقت نفسه إلى أن القانون الرقم 20 لعام 2019، جاء وألغى في المادة 20 في قانون الأحوال الشخصية، والتي تشترط «موافقة الولي للفتاة التي بلغت سن الرشد، فإذا لم يعترض الولي أو كان اعتراضه غير جدير بالاعتبار، يأذن القاضي بالزواج شرط الكفاءة»، التمييز ووحّد السن للجنسين، ولكنه بقي قاصراً عن حماية الأطفال ويشرّع زواجهم. وتضيف العلي أن «هذه المادة بحاجة إلى إلغاء، ولكن الحل ليس إلغاءها فقط، بل نبذ هذه الظاهرة اجتماعياً وإيجاد حلول اجتماعية، لأن القانون جاء بتغطية الزواج العرفي، الذي بقي موجوداً في المجتمع... مع الإشارة إلى أن قانون العقوبات السوري قد عدّل أخيراً ليشمل الزواج العرفي».