عاد علي إلى «مستشفى الأمراض العقليّة» من جديد بعد أربع سنوات قضاها مقيّداً ومسجوناً في حظيرة. طويت قصة «المريض السجين» لكنها، وفي شكل غير مباشر، فتحت باب الأسئلة حول مئات أو آلاف الحالات لمرضى يحتاجون الى رعاية لا يجدونها، سواء بسبب عدم وجود قوانين واضحة تحميهم، أو بسبب عدم توافر أماكن لاستقبالهم، أو بسبب الخوف من «عار الجنون» الذي قد يلاحقهم إلى الأبد.في قرية صغيرة نائية في أقصى الريف الشمالي الغربي لحماة، وسط البلاد، أمضى علي البالغ من العمر 29 عاماً أربع سنوات مقيداً ومسجوناً بين أربعة جدران مهترئة في حظيرة منزل ريفي في قرية عين سلمو. كان والده يرمي له الطعام من النافذة، قبل أن تتدخل دورية أمنية وتخرج الشاب وتنقله إلى المستشفى. على الفور، اعترف الأب بأنه سجن ابنه في تلك الغرفة بعدما تسبّب الشاب بالأذى لعدد من أبناء القرية، كما حاول إيذاء نفسه، لأنّه مصاب بمرض عقلي حوّله إلى شخص عدواني. الكشف الطبي أكد أن الشاب سليم من الناحية الجسدية، وأنه فعلاً مصاب بمرض عقلي، لتبدأ معاملة نقله إلى مستشفى «ابن سينا» في العاصمة دمشق.
محمّد (اسم مستعار) أحد أقرباء الشاب يوضح هاتفيّاً لـ«الأخبار» أن عليّاً «كان قبل نحو خمس سنوات يتلقى العلاج في مستشفى ابن سينا، ثمّ أبلغت إدارة المستشفى عائلته أن حالة ابنهم تحسّنت ويمكنهم إخراجه». عادت العائلة سعيدة بابنها الذي بدا في الأسابيع الأولى هادئاً، قبل أن تظهر عليه تدريجيّاً ملامح العدوانية من جديد. أبلغ والده الشرطة بحالة ابنه، وقام بتسليمه لهم، قبل أن تعيده الشرطة إلى العائلة «بسبب عدم توافر أماكن شاغرة» وفق ما قالته الشرطة حينها. حار الأب بابنه المريض، ولم يجد في نهاية المطاف حلاً إلا بتقييده وسجنه في غرفة خارج منزله! يقول «رئيس الطبابة الشرعية في حماة» الدكتور قيس خلّوف إن الشاب «مصاب بهلوسة وتوهمات زورية، إضافة إلى فقدان للبصيرة، الأمر الذي حوّله إلى شخصية عدوانية».

الثلث الناجي
«عدم وجود مكان شاغر لاستقبال علي» كما أبلغت عائلته قبل أربع سنوات، تزامن مع توقف «مستشفى ابن خلدون» عن العمل إثر اقتحامه من قبل المسلحين، والدمار الكبير الذي لحق به على مدار عام تقريباً. يقع المستشفى في قرية دويرينة في ريف حلب الشرقي، سيطر المسلحون عليه نهاية عام 2012، واستعاده الجيش نهاية عام 2013، وتم تأهيل بعض الأقسام فيه وافتتاحه أواخر عام 2015. بعد اقتحام المسلحين المستشفى، فضّل عدد من الممرضين والأطباء البقاء مع مرضاهم، أو أجبروا على ذلك. يقول مدير المستشفى الدكتور بسام حايك لـ«الأخبار» إنّ عدد المرضى وقتها كان «304، تعرض 25 منهم للقتل خلال الهجوم. كما وقعت عمليات تصفية طائفية ومناطقية، حيث تم فرز وانتقاء 16 مريضاً من اللاذقية، وتم اقتيادهم إلى خارج المستشفى وقتلهم». ويضيف «بعض المرضى تم إطلاقهم في الشوارع، ومرضى آخرون جرى اقتيادهم إلى جبهات القتال حيث تم تفخيخهم وتفجيرهم»!
وزارة الصحة: عدد المصابين باضطرابات نفسية شديدة نحو مليون شخص


من بين مجموع المرضى، نُقل 110 إلى «مركز رعاية المسنين» في مدينة هنانو (مساكن هنانو) شمال شرق حلب، التي كانت تحت سيطرة المسلحين وقتها. وأعيد نقلهم لاحقاً إلى مدينة أعزاز في ريف حلب الشمالي (قرب الحدود التركية)، وأودعوا في مركز تم إعداده بدعم من جمعيات أوروبية. وعن مصير المرضى في الوقت الحالي، يقول حايك «يضعون المرضى في المركز لأنهم باب رزق، حيث يقبضون من المنظمات الأجنبية مبالغ مالية لقاء رعايتهم. وفي كل مرّة يعانون فيها من أزمة مالية يتواصلون معنا عن طريق الهلال الأحمر، ويقولون إنهم سيعيدون المرضى، لكن ذلك لم يحصل حتى الآن».

من يحمي المرضى؟
عاد «مستشفى ابن خلدون» إلى العمل بعد تأهيل بعض الأقسام فيه. يقول حايك «كانت طاقة المستشفى الاستيعابية قبل تعرّضه للدمار نحو 600 مريض، ونستقبل في الوقت الحالي 210 مرضى من سبع محافظات: حلب، إدلب، حماة، الرقة، طرطوس، دير الزور واللاذقية».
وتوجد في سوريا ثلاثة مستشفيات للأمراض العقلية والنفسيّة: في حلب «ابن خلدون»، وفي دمشق «ابن سينا»، و«ابن رشد» الذي يحوي قسماً خاصّاً بمعالجة الإدمان. لا إحصاءات دقيقة حول عدد المصابين بالأمراض النفسية والعقليّة في سوريا راهناً. لكنّ معظم الدراسات تفيد بأن الحرب ضاعفت عدد المصابين، وأدت إلى ظهور أمراض جديدة لم تكن معهودة من قبل. ويقدّر «مدير الصحة النفسية» في وزارة الصحة الدكتور محمد رمضان محفوري عدد المرضى المصابين باضطرابات نفسية شديدة بنحو مليون شخص، في حين تستقبل المستشفيات الثلاثة أقل من ألف مريض فقط ضمن طاقتها الاستيعابية، الأمر الذي قد يشرح حجم الفجوة. يشدّد محفوري في خلال حديثه مع «الأخبار» على حاجة البلاد إلى «عمل مضاعف على جميع المستويات لمعالجة هذه الفجوة». ويوضح أنّ «عدد الأطباء النفسيين في سوريا كلها يبلغ 75 طبيباً فقط، فيما عدد الأطباء النفسيين السوريين في السعودية وحدها 150 طبيباً»! وعن الإجراءات الممكنة لردم الفجوة بين ما يمكن للمستشفيات الثلاثة استقباله، وعدد المرضى الذين يحتاجون إلى الرعاية فعلاً، يقول محفوري «طرحنا مرات عدّة فكرة تخصيص أقسام صغيرة للطب النفسي في المستشفيات الحكومية، الأمر الذي يخفف الضغط عن المستشفيات الثلاثة، ويريح المرضى الذين يخافون من أن يوصموا بالجنون في حال راجعوا مستشفيات الأمراض العقلية. لكنّ هذه المبادرة قوبلت برفض عدد من مديري المستشفيات الذين خافوا للأسف من عار وجود مرضى عقليين في مستشفياتهم».
«من يحمي المريض»؟ يجيب محفوري بجملة مقتضبة «لا أحد». ثمّ يضيف «تحدثنا منذ سنوات وطالبنا مرات عدّة بقانون خاص يحمي المرضى النفسيين ويرعاهم، لكن ذلك لم يحدث للأسف، علماً بأن معظم دول العالم بما فيها مصر والعراق تمتلك قانوناً خاصاً يحمي المرضى النفسيين».