كريستيان فوكس مؤلِّف كتاب «إعادة قراءة ماركس في عصر الرأسمالية الرقمية»، هو عالم اجتماع أوسترالي وأستاذ الإعلام والتواصل في جامعة وستمنستر في بريطانيا. فوكس لا يعتمد كما هو شائع على رؤية ما بعد الحداثة - التي حرفت نظر العلماء الاجتماعيين بعيداً من المنظور الكُليّ ودراسة النظام الرأسمالي العالمي ونظرية الاستغلال والسرديات الكبرى مثل نظريات التنمية، نحو سياسات الهُويَّة على المستوى المحليّ - بل يأتي بقاعدة مفاهيمية عريضة نجد جذورها بشكل خاص في كتابات كارل ماركس. وهو يُركِّز على نظرية الاستغلال، متناولاً في كتاباته موضوعات عديدة في مجال الدراسات الرقمية، لتقديم رؤية جديدة لما يُعرف بـ«نظرية التواصل»، ومنظوراً ماركسياً لما يُعرف بـ«العمل الرقمي».

يحاول فوكس من خلال أول كلمة في عنوان الكتاب (إعادة قراءة)، إخبارنا أن هناك ما يسمّى «عودة ماركس»، إذ أن مؤلفاته لا تزال تنبُض حتى اليوم بالنقد الحاد والمتُجدِّد للرأسمالية، ولغاية اليوم، لا يزال يخرج منها كتابات لم ترَ الضوء سابقاً. ويأتي هذا الكتاب باللغة الإنكليزية في مقدمّة من 131 صفحة وخمسة فصول وخاتمة، ويطرح سؤالين أساسيين: «ما سبب أهمية ماركس اليوم؟ كيف يمكننا فهم ماركس في عصر الرأسمالية الرقمية والتواصلية؟». يناقش الفصل الأول «رأس المال في عصر المعلومات» في إطار قراءات مختلفة لكتاب «رأس المال» ولا سيما ما قدّمه ديفيد هارفي ومايكل هاينريش. أما الفصل الثاني «ماركس عالم اجتماعٍ نقديّ للتكنولوجيا»، فيتتبّع تطوّر مفهوم ماركس عن «الآلة» ودور التكنولوجيا في الرأسمالية. والفصل الثالث «ماركس مُنظِّراً نقدياً للتواصل» يشير إلى أن أعمال ماركس تؤسّس نظرية نقدية للتواصل من خلال ما سمّاه «المادية التواصلية»، بالإضافة إلى «وسائل الاتصال» و«العمل التواصلي»، فضلاً عن عرض أسس نقد «الأيديولوجيا». ويقدِّم الفصل الرابع «الجيل الرابع من الصناعة والإنترنت الصناعي كأيديولوجيا رقمية ألمانية» تلخيصاً لموقف ماركس من «الأتمتة» لافتاً إلى أن الثورة الصناعية الرابعة ليست إلا أيديولوجيا، ويوضح الأسباب الاقتصادية السياسية وراء سعي رأس المال الألماني لتطوير الجيل الرابع من الصناعة، ويعرض 10 أسباب تجعل المرء متشككاً في تلك الصناعة. ويناقش في الفصل الخامس «تأمُّلات في كتاب مايكل هاردت وأنطونيو نيجري» كونه كتاباً يتناول بذكاء وشجاعة السياسة المعاصرة والتحليل النقدي للرأسمالية المعاصرة المتعدّدة الأبعاد، وأهمها الرأسمالية الرقمية.
لا يقصد فوكس من خلال إعادة قراءة ماركس «تطبيق فكره ميكانيكياً على مجتمع القرن الحادي والعشرين»، بل يقصد «تطوير تحليلاتٍ ونقدٍ بطريقة تاريخية وديالكتيكية للطبقيَّة والرأسمالية في القرن الحادي والعشرين... فالرأسمالية ليست نهاية التاريخ، ونحن بحاجة إلى تغيُّراتٍ مجتمعية أساسية من أجل أنسَنة المجتمع». تتطلّب إعادة قراءة ماركس أن «نعيد بناء تاريخ نظريته ومفاهيمه»، ما يعني أن «نُحَدِّث ونطوِّر ونُطبِّق منهجه على الظواهر المعاصرة» من أجل «وقف التدمير المتكرّر والمستمرّ للرأسمالية».

اقتصاد المعلومات والإعلان والصَنَميَّة
يشير فوكس إلى أن تكنولوجيا المعلومات الشبكية أثَّرت على جميع مجالات الحياة اليومية، وليس فقط على الصناعة والعمل والاقتصاد. يُعرِّف الحاسوب بأنه «آلة عالمية... ووسيلة للإنتاج والتداول والاستهلاك»، مشيراً إلى أنه «تقنية تقارُبٍ convergence أدَّت – مع التطورات المجتمعية الأخرى – إلى تعزيز اتجاهات التقارب الاجتماعي للثقافة والاقتصاد، ووقت العمل ووقت الفراغ، والمنزل والمكتب، والاستهلاك والإنتاج، والعمل المنتج وغير المنتج». والإنترنت، بالنسبة إلى فوكس، جاء نتيجة «الحرب الباردة» و«الثقافة المضادّة في كاليفورنيا». أما الحواسيب وشبكات الحاسوب فهي «وسائل تُتيح خلق المنتجات المعلوماتية»، وهي تعمل بمثابة «نواظِمٍ لتداول السلع». لذا، يتطلّب تراكم رأس المال في اقتصاد المعلومات استراتيجيات خاصة، منها تسليع المحتوى، إلى جانب حقوق الملكية الفكرية وحقوق التأليف والنشر، وتسليع الوصول إلى المحتوى (عبر الاشتراكات)، وتسليع تكنولوجيات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وتسليع الجمهور في الإعلان، وتكاثر تنسيقات الوسائط (media formats) وإعادة استخدام المحتوى. بمعنى آخر «تسليع المستخدمين والبيانات التي يولدونها في الإعلان المستهدف عبر الإنترنت».
هكذا يصبح الإنترنت (والاقتصاد عبره) مليئاً بالتناقضات. يمكن التطرّق إلى تناقضين؛ هناك تناقض بين المستخدمين الذين يودّون تحميل المحتوى الرقمي من دون الدفع عبر الإنترنت من جهة، والشركات الإعلامية التي تستخدم حقوق الملكية الفكرية والرقابة والمراقبة في محاولة الحدّ من مشاركة الملفات عبر الإنترنت من جهة أخرى. ومع ذلك، تجري عملية توفيق بين الأرباح والأجور، ديالكتيكياً، في الرأسمالية، ما يفرض تناقضاً من نوع آخر: أن ينظر بعض الفنانين (أو المُنتجين للمحتوى) أيضاً إلى مشاركة الملفات على أنها تهديد من نوع ما. أما التناقض الثاني فيكمن في صناعة الثقافة بين شقين؛ صناعة المحتوى، وصناعة الانفتاح. الأولى تُسَلِّع المحتوى، بينما تعتاش الثانية على المحتوى المفتوح المصدر على الإنترنت المُدمَج أساساً باستراتيجيات التراكم الأخرى، مثل الإعلانات المستهدفة، ويوتيوب وفيسبوك... في هذا السياق، الانفتاح يعني توافر المحتوى الرقمي عبر الإنترنت من دون مقابل، إلا أنه مع ذلك تستخدم صناعة الانفتاح طرقاً أخرى لتُراكِم رأس المال لا تتعارض مع مشاركة ملفات المحتوى المحمي بحقوق الطبع والنشر (الإعلان مثالاً).
يشير ماركس إلى أن العلاقات الاجتماعية المحدّدة بين البشر أنفسهم تفترض هذا «الشكل العجيب للعلاقة بين الأشياء». والواقع، أن الإعلان يستفيد من الفراغ الذي تتركه صَنَميَّة السلع من خلال إخفاء طابع علاقات الإنتاج الاجتماعية عن السلعة نفسها. ويملأ الإعلان هذا الفراغ من خلال تقديم الدعاية للمنتجات. الإعلان برأي فوكس، هو شكلٌ من أشكال «التواصل الصّنَميّ الذي يُنتِج ويَنقُل معاني مُصطَنعة للسلع». إنه «قويٌّ للغاية لأنه يروي قصصاً ويُقدِّم معاني عن السلع والاقتصاد»، ووظيفته الحقيقية «ليست إعطاء الناس المعلومات، بل جعلهم يشعرون بالرضى». لذا يستنتج بأنه «نظام تواصلٍ سحريّ ... يُضفي الطابع الصّنَميّ على السلع»، فضلاً عن كونه «دعاية لأيديولوجية السعادة البشرية» ومفادها أنه يمكن تحقيق السعادة والرِضى من خلال استهلاك السلع. إنه «سلعة غريبة في حد ذاتها، تُنتَج من خلال استغلال عمل الجمهور والمستخدمين الذي يخلق الاهتمام والبيانات».
في فيسبوك مثلاً، لا تكون حالة السلعة مرئية فوراً لأنك لا تدفع مقابل الوصول: تجربتك الفورية هي النشاط الاجتماعي الذي تستمتع به على المنصة مع الآخرين. تُخفي الأشياء (السلع والمال) في صَنَميَّة السِلع، العلاقات الاجتماعية، وبينما تأخذ العلاقات الاجتماعية على وسائل التواصل الاجتماعي – وبشكل خاص في استخدام الشركات لها – شكل التجربة الفوريَّة والملموسة، فإن شكل السلعة لا يواجه المستخدمين إلا مواربة، ما يعني أن الطابع الاجتماعي لمثل هذه المنصات يُخفي بالضرورة شكلها السِلَعيّ.
في معظم صفحات الكتاب – وبشكل خاص في مناقشته لكتاب هاردت ونيجري – ثمة تأكيد بأنه لا يمكن تحديد بٌعدٍ واحد من أبعاد الرأسمالية باعتباره البُعد الوحيد، إذ إن الرأسمالية وحدة جدلية متباينة من رأسماليات متنوعة. لذا، ليس علينا أن نقرّر ما إذا كنّا نعيش في رأسمالية صناعية، أو ماليَّة، أو معلوماتية، أو رقميَّة أو غيرها، بل يتعين أن نرى الأبعاد المتعدّدة والمتداخلة للرأسمالية في مجموعها وتغيُّرها المستمر. واقتصاد المعلومات هو اقتصادٌ مُؤمْوَلٌ financialized بطبيعته؛ الأزمة الاقتصادية لعام 2000 المعروفة باسم فُقاعة الإنترنت والتدفقات المستمرّة للاستثمار الرأسمالي في وادي السيليكون دليل على ذلك. وتكنولوجيا المعلومات هي، وفقاً لفوكس، أحد مُحركات الأمْوَلة، بدليل التداول الخوارزمي، وخوارزميات تقييم الجدارة الائتمانية، والعُملات الرقمية...

الجيل الرابع من الصناعة
«الجيل الرابع من الصناعة» وفق مفهوم فوكس، يُروِّج لمزيج يشمل: إنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والحوسبة السحابية، وأجهزة الاستشعار، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات. ويجري تطبيق مزيج من هذه التقنيات على إنتاج وتوزيع واستخدام السلع المادية. أما الأنظمة الإلكترونية المادية، فهي أنظمة حوسبة تُطبَّق على المكوّنات المنتجة صناعياً: يتم تضمين الرقائق في السلع المُصنَّعة ليتاح ربطها بالشبكة وتوصيلها بالإنترنت. برأيه، في الجيل الرابع «السلعة تُنتَج وتُسلَّم وتُستَخدم وتُصلَح ويُعاد تدويرها تلقائياً بالكامل من دون تدخُّل بشريّ من خلال ربط التقنيات المختلفة عبر الإنترنت»، ويستنتج بأن هذه الصناعة ليست إلا محاولة خلق أيديولوجيَّة لنموذج تكنولوجي جديد... أو أيديولوجيا تَعِد بالنمو الاقتصادي.
يناقش فوكس مسار الجيل الرابع من الصناعة في ألمانيا. فرأس المال الألماني يأمُل أن يؤدي دَفع الأتمتة، بواسطة تقنيات الجيل الرابع، إلى تقليل أكلاف العمالة لتستحوذ أرباح التصنيع مستقبلاً، على حصّة أعلى من القيمة النقدية المُنتَجة في الساعة الواحدة، مقارنةً بالوقت الحالي. لكنه يشكّك أيضاً، في ما إذا كان تقدُّم الجيل الرابع من الصناعة لن يزيد من أكلاف رأس المال الثابت (التي تشمل أكلاف شراء وصيانة الآلات الرقمية) والتي ستنعكس سلباً على معدل الربح إن لم تُخفَّض أكلاف الأجور بشكل كبير. لذا، يبدو الجيل الرابع من الصناعة، في سياق الصناعة الألمانية، بمثابة تعبير عن «الأمل الاستراتيجي لرأس المال الألماني في إمكانية نقل معدّل الربح المرتَفع للقطاع الرقمي، إلى قطاع التصنيع، وبالتالي إمكانية التغلُّب على انخفاض معدل الربح العام».
يعدّد فوكس عشرة أسبابٍ تجعل المرء مُتشكِكاً إزاء الجيل الرابع من الصناعة يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
1- فَكِّر، مثلاً، في الفروقات بين الروبوتات والإنسان: لا تعارض الروبوتات أيَّ أوامر، ولا تطالب بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل، ولا تُضرِب عن العمل، ولا تهدف إلى التحكُّم بالعمليات التي يشاركون فيها. هذا ما يجعلها مثيرةً لاهتمام رأس المال، ويمكن الافتراض بأن استخدام رأس المال لها يأتي كوسيلة للحدّ من إمكانات نضالات الطبقة العاملة.
2- عندما يصبح الإنتاج والسلع المُنتَجة متّصلين بالشبكة عبر الإنترنت وجزءاً لا يتجزأ من تدفقات البيانات الضخمة، ينشأ العديد من المشكلات المتعلّقة بـ: الخصوصية، حماية البيانات، مراقبة العمال، والمستهلكين. وهذا يطرح مشكلة نشوء مخاطر جديدة، وأسئلة أخلاقية معقدة عن عيوب الأنظمة التكنولوجية الجديدة.
3- يلقى البشر المعاصرون الدعم بشكل متزايد من الآلات الرقمية الذكية، وهذا يفترض إمكانية ظهور أشكال جديدة من الاغتراب، فلا يمكن لأحدٍ منا إجراء محادثة ذات مغزى حول الحياة مع روبوتٍ ما.
4- لا يمكن إلى حدٍ ما التنبؤ بسلوك أنظمة الذكاء الاصطناعي، ما قد يسبب الإحباط للعمال إن لم يتمكّنوا من تحقيق أهدافهم من خلال العمل الهادف، لأن الآلة تجعلهم يتصرّفون بشكل مختلفٍ، في مناسباتٍ مختلفة، في الموقف نفسه من العمل: تحدث مثل هذه المواقف لأن الآلات الذكية تحسب وتشرف على العديد من متغيرات السياق غير المرئية للعامل والتي لا يمكنه تجريبها.
الطابع الاجتماعي لمنصات التواصل الاجتماعي يُخفي بالضرورة شكلها السِلَعي


5- يُعزِّز الجيل الرابع من الصناعة ويُركِّز بالضرورة كلاً من رأس المال والاحتكار.
6- يفرض احتمال أن تعمل الروبوتات 24 ساعة – مع الحاجة للإشراف على الأقل – أسئلة حول وقت العمل، والتوازن بين عمل وحياة البشر الذين يعملون مع الروبوتات.
7- إذا مورس الجيل الرابع من الصناعة كمحاولة لعكس أثر العولمة وإعادة الإنتاج الخارجي من البلدان النامية إلى المراكز الرأسمالية، فإن قضايا تفكيك التصنيع قد تؤثّر بشكل كبير جداً على الجنوب العالمي، وتُعمِّق من الاستقطاب على الصعيد العالمي: آنذاك لن يُجمَّع جهاز الآي باد بأيادي المهاجرين القرويين الشباب ذوي الأجور المنخفضة في مصانع فوكسكون الصينية في شينزين، بل بواسطة روبوتٍ ما في ميونيخ.
8- في ظل استمرار قيام الوقود الأحفوري بدور المصدر الرئيسي للطاقة، فمن المحتمل – في ظل هذه الرأسمالية الأحفورية – أن يؤدي الجيل الرابع من الصناعة إلى تفاقم الآثار البيئية الضارة.
9- إذا أصبح إنتاج مختلف أنواع السلع (المادية والفكرية) متصلاً بالشبكة عبر الإنترنت، فإن تهديداتٍ أمنية جديدة تظهر في سياق التجسُّس الصناعي والقرصنة والجريمة السيبرانية.
10- أدّت الحوسبة إلى زيادة أكلاف رأس المال الثابت، وبالتالي أثَّرت سلباً على بلدان عدّة لجهة معدلات الربح، إذ عزَّز رأس المال قمع الأجور كإجراء مضادّ لميل معدل الربح إلى الانخفاض. وإذا استمر ذلك، فمن المرجح أن تحصل جولة جديدة من محاولات خَفض حصّة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي لمواجهة انخفاض معدلات الربح في سياق الجيل الرابع من الصناعة.
- نص مقتطع من مقال أطول نُشر في مجلة كلية الآداب – جامعة الإسكندرية

* باحث ماجستير في علم الاجتماع – جامعة الإسكندرية