يأتي هذا الكتاب في ظرف باتت فيها سندات الخزينة عنواناً للانهيار النقدي والمصرفي والمالي في لبنان، بسبب الدَيْن المتراكم على الدولة نتيجة عقود طويلة من السياسات المالية والنقدية التي صبّت في مصلحة أصحاب المصارف، وأدّت في نهاية المطاف إلى تبديد ثروات المجتمع وإفقار اللبنانيين. لذا، إن عرض الظروف التي أرغمت الدولة اللبنانية على الاستدانة لأول مرة عام 1949، هي محاولة لتقديم قصّة مغايرة لسندات الخزينة، ما يتيح المقارنة بين موقف الدولة اللبنانية في حينها، وموقفها اليوم الذي جعل من الدَيْن العام وسيلة لإثراء أصحاب المصارف وتأمين استمرارية النظام السياسي الحاكم بالتواطؤ مع مصرف لبنان.
يعالج الكتاب في قسمه الأول الظروف التاريخية التي أحاطت بإصدار سندات الخزينة بين عامَي 1949 و1969، بينما يهتم القسم الثاني بالتوثيق المادي لهذه السندات عبر نشر صورها مع تقديم كل المعلومات المتوفرة عنها لجهة الأعداد المعروفة منها ومدى ندرتها. مع الإشارة إلى أن غالبية هذه السندات لم تكن مشاهدة سابقاً، وبعضها يُنشر للمرة الأولى.
ولسندات الخزينة قصّة بدأت مع إصدارها لأول مرة عام 1949 بعد توقيع الاتفاق النقدي بين لبنان وفرنسا في 24 كانون الثاني 1948. إذ يتبين أن نشأة الليرة اللبنانية خلال الانتداب الفرنسي هي وثيقة الارتباط بهذه السندات التي ستصدر بعد الاستقلال. فمع انهيار السلطنة العثمانية عمدت السلطات الفرنسية إلى استحداث عملة جديدة عرفت بالليرة السورية عام 1920، ثم عُدّلت تسميتها كي تصبح الليرة اللبنانية السورية عام 1924، وأخيراً الليرة اللبنانية عام 1939. وقد منح المفوض السامي الجنرال غورو في 31 آذار 1920 البنك السوري (بنك سوريا ولبنان لاحقاً) الامتياز الحصري بإصدار الليرة السورية الورقية، علماً بأن هذا البنك كان مؤسّسة خاصة تهيمن عليها المصالح الرأسمالية الفرنسية.
شكّل إصدار العملة الورقية الجديدة، الوسيلة التي سمحت لسلطات الانتداب تمويل إنفاقها في لبنان وسوريا، كون البنك السوري كان قد توصل مع وزارة الخارجية الفرنسية إلى اتفاق في نيسان 1919 لتكون الليرة السورية الواحدة معادلة لعشرين فرنكاً فرنسياً، أي إن كل من يحمل ليرات ورقية سورية يمكنه استبدالها بفرنكات فرنسية، لكن ليس في فروع البنك المنتشرة في كل البلاد الخاضعة للانتداب، بل في باريس عبر إصدار شكّ بالقيمة المناسبة.
وقد نصّ هذا الاتفاق على آلية خاصة من أجل تأمين التغطية القانونية المناسبة لهذه العملة الجديدة، إذ لم يكن يُعقل أن تنفق السلطات الفرنسية الليرات السورية من دون مقابل، كون ذلك سيؤدي في نهاية المطاف إلى امتناع السكان عن القبول بعملة ورقية لم تكن فقط غير مألوفة لهم، بل أيضاً غير مستقرّة إطلاقاً لجهة سعر صرفها. لذا، تألّفت تغطية الليرة من عناصر مختلفة تشمل الذهب (سبائك أو عملات) وسندات تجارية إضافة إلى وديعة إلزامية بالفرنكات الفرنسية تضعها الحكومة الفرنسية في الصندوق المركزي للخزينة الفرنسية في باريس تساوي ثلث الكتلة النقدية الذي يضعها البنك السوري في التداول كحدّ أقصى.
هكذا يتبين أن الليرات التي تطلبها سلطات الانتداب الفرنسي من البنك السوري، يتوجب على الدولة الفرنسية تغطيتها بفرنكات توضع في حساب خاص ببنك سوريا ولبنان، أي إن الليرة اللبنانية - السورية كانت في حقيقة الأمر ديناً من الشعبين السوري واللبناني على الحكومة الفرنسية. صارت تفاصيل هذا النظام النقدي متوافرة بالكامل، إذ إنه استمرّ من دون تعديلات كبيرة لغاية الحرب العالمية الثانية. يومها شهد الفرنك الفرنسي اعتباراً من عام 1944 هبوطاً في سعر صرفه. وبغية الحفاظ على استقرار الليرة اللبنانية (والليرة السورية) تعهدت السلطات الفرنسية بضمان الفرنكات الفرنسية التي تشكل التغطية القانونية لليرة، أي إن كل تدهور سيصيب الفرنك الفرنسي لن ينعكس على الليرة اللبنانية لأن فرنسا ستدفع الفرق عبر ما يسمح بالحفاظ على ثبات العملة اللبنانية بغض النظر عن الهبوط الذي سيُصيب الفرنك.
وبالفعل ستحترم فرنسا تعهداتها عندما ضمنت الليرة مجدداً بعد قراراها بخفض سعر صرف الفرنك الفرنسي في 26 كانون الأول 1945 إذ أصبحت الليرة اللبنانية تعادل 54.35 فرنك. لكن هذا الواقع لم يكن ليستمر، خصوصاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ وجهت السلطات الفرنسية بتاريخ 15 آذار 1946 كتاباً رسمياً إلى وزارة الخارجية اللبنانية أعلمتها بموجبه إنها قرّرت التراجع عن قرارها السابق وعدم ضمان الليرة اللبنانية مستقبلاً عند أي تدهور جديد يصيب سعر صرف الفرنك. هذه كانت خلاصة المفاوضات التي جرت بين لبنان والحكومة الفرنسية من أجل إيجاد حلّ للفرنكات الفرنسية التي تشكّل تغطية الليرة اللبنانية بعدما باتت هذه الأخيرة مكشوفة وعرضت لتقلبات سعر صرف الفرنك. وقد توصل لبنان، بعد محادثات شاقة، إلى توقيع اتفاق نقدي مع فرنسا عام 1948 بموجبه وافقت فرنسا على الاستمرار بضمان قسم من الفرنكات (9 مليارات فرنك)، بينما القسم المتبقّي (4 مليارات فرنك) فقدت تلك الضمانة. ومع استمرار تدهور الفرنك راكم لبنان خسائر على هذا القسم الثاني من الفرنكات غير المضمونة بلغت نحو 59 مليون ليرة، مضافاً إليها نحو 19 مليون ليرة أخرى نتيجة الخسائر الإضافية التي تكبدتها الخزينة اللبنانية بسبب سحب أوراق النقد السورية من التداول. وهكذا قررت الدولة اللبنانية تحمل تلك الخسائر عبر إصدار سندات خزينة عام 1949 تفادياً لأي تدهور قد يهدّد استقرار الليرة.
الدولة اللبنانية استدانت عبر سندات الخزينة لتغطية خسائر ارتباطها بالفرنك الفرنسي ولإطفاء أزمة «بنك إنترا»
الكتاب يشرح أن الدولة اللبنانية لم تضطر إلى الاستدانة مجدداً عبر إصدار سندات الخزينة، إلا بعد أزمة بنك انترا عام 1966. فقد قرّرت الدولة دفع 50 مليون ليرة للمودعين الصغار، وصدر قانون سمح للحكومة بإصدار سندات خزينة من أجل جمع الأموال اللازمة لذلك. وفي 6 تشرين الثاني 1967 وبمجرد أن افتتاح باب الاكتتاب بالشريحة الأولى من سندات الخزينة التي بلغ مجموعها 40 مليون ليرة، سارعت المصارف اللبنانية في غضون ست ساعات فقط إلى شراء كل هذه السندات، لا بل إن المصارف تقدّمت بطلبات تفوق القيمة المسموح الاكتتاب بها أي بمليونين و500 ألف ليرة، وقد اندلع خلاف لاحق بين جمعية المصارف ووزارة المالية، إذ رفضت المصارف دفع أي ضرائب على الأرباح والفوائد التي حقّقتها من شراء هذه السندات.
يعتمد الكتاب على مجموعة متنوعة من المصادر، ولا سيما التقارير السنوية لبنك سوريا ولبنان، ومحاضر مجلس النواب التي شهدت نقاشات مهمة حول كيفية معالجة الدَيْن العام، من أجل تمكين التوصّل إلى خلاصة أولية مفادها أن سندات الخزينة كانت وسيلة تلجأ إليها الدولة للحفاظ على استقرار الليرة اللبنانية، أو من أجل معالجة تداعيات أزمة مصرفية، بينما السندات أضحت اليوم الوسيلة التي تستدين بها الدولة من دون هدف اقتصادي أو إنمائي واضح، بل خدمة لمصالح أصحاب المصارف الذين تمكنوا من جني ثروات شخصية خيالية على حساب المجتمع.