هذا المقال مقتطف من كتاب «سامويلسون ــ فريدمان: المعركة على السوق الحرّة»، للكاتب نيكولاس هنري وابشوت، وهو صحافي بريطاني لديه مؤلفات عدّة من أبرزها «رونالد ريغان ومارغريت تاتشر»، و«كينز ــ هايك: الصراع الذي حدّد شكل الاقتصاد العصري». يُقارن وابشوت بين اقتصاديَّين هما بول سامويلسون وميلتون فريدمان، مشيراً إلى أنّ فريدمان كان تأثيره في السياسة أكبر من تأثيره في الاقتصاد وأنّ نظريته الأساسية المتعلّقة بالعقائديّة النقديّة لم تدم طويلاً. وفي المقابل، لم يكن سامويلسون إضافة استثنائيّة في الاقتصاد، لكنه استطاع أن يقدّم مزيجاً فعّالاً من أفكار جون مانيارد كينز وفريدريك فون هايك حول جدل تدخّل الدولة في الاقتصاد. والمشترك بينهما فكرة الأسواق الحرّة، إلّا أن كلّاً منهما أخذها في مسار مختلف.
عندما سُئل ميلتون فريدمان عما إذا كانت أعماله قد غيّرت شكل الاقتصاد، كان ردّه: «يصعب قول ذلك». إنّ إنجازاته العديدة واضحة في السياسة أكثر منها في الاقتصاد. وفيما استمرّت حججه التحرّرية المناهضة لدور الدولة لما بعد وفاته، فإنّ جهوده لإعادة الاقتصادات إلى «الاقتصاد السليم» لم تبلغ هدفها. وإنجازه الفريد كان إبعاد الحكومة الفيدرالية عن محاولة إدارة الاقتصاد من خلال السياسات المالية. وبذلك تعرض «الاقتصاد الجديد» الكينزي للهزيمة من قبل الركود التضخّمي وفريدمان. لكن رؤساء الاحتياطي الفيدرالي المتعاقبين ووزراء الخزانة اشتكوا من أن أسعار الفائدة والسياسة النقدية وحدها ليست أدوات كافية للتوفيق بين التحكّم بسعر الدولار العائم والتضخّم والبطالة ومعدل النمو الاقتصادي.
وفي عام 2009 أصبح تأثير فريدمان المستمرّ على السياسة الأميركية واضحاً، ولا سيما مع صعود حركة «حفلة الشاي» - الحركة الشعبية المناهضة «للحكومة الكبيرة» (حجماً) والمناهضة للضرائب، إذ إنه على إثرها طُهّر الحزب الجمهوري من المعتدلين ما مهّد لانتخاب دونالد ترامب رئيساً عام 2016. وشكّل صعود ترامب، خيبة أمل للعمال الكادحين - كبار السن، والعمال السابقين الذين صُرفوا من العمل مع نهاية الصناعات الملوِّثة (الفحم والصلب وبناء السفن) بعدما قضت عليها الواردات الرخيصة الكلفة. ولطالما دافع فريدمان بشغف عن فكرة التجارة الحرّة العالميّة، علماً بأن الرئيس السابق بيل كلينتون طبّقها إلى جانب اتفاقية التجارة الحرّة لأميركا الشمالية عام 1994، بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا. كما تحوّلت اتفاقية الغات (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة) إلى منظمة التجارة العالمية عام 1995.
وقد استفاد الاقتصاد الأميركي بشكل عام من التجارة الحرّة، إنما في المقابل، خسر الكثير من العمّال في قطاع الصناعة الأميركي وظائفهم أمام العمال الآسيويين ذوي الأجور المنخفضة الذين يعملون من دون الاستفادة من قوانين الصحة والسلامة وغيرها من وسائل الحماية التي يتمتع بها العمال الأميركيون. التجارة الحرّة نقلت الصناعات من أميركا إلى الخارج، وقسّمت الأميركيين. أما أولئك الذين فقدوا سبل عيشهم بسبب عواقبها، فقد وجدوا في ترامب حليفاً واضحاً وعد بإعادة التفاوض على الصفقات التجارية.


سامويلسون كان من مناصري العولمة والفوائد التي تجلبها للبلدان المعنية، وهو لفت الانتباه إلى الجانب المظلم لإلغاء التعريفات الوقائية بالنسبة للعمال الأميركيين. وفي عام 1972 ألقى محاضرة «التجارة الدولية لبلد غني» التي أصبحت مرجعاً أساسياً في خطابه. يومها قال إن التجارة الحرّة ليست خبراً جيداً للجميع، بل يمكن لمكان غني أن يخسر نشاطاً معيناً، في مقابل كسب مكان فقير هذا النشاط. لقد كانت هذه حقيقة اقتصادية أظهرها ترامب في حملته الرئاسية لعام 2016.
استحوذت خطّة فريدمان لضريبة الدخل السلبية وحلولها محلّ مدفوعات الرعاية الاجتماعية التقليدية، على دعم سياسي واسع. حتى سامويلسون أشاد بها باعتبارها «فكرة حان وقتها». وتحولت الفكرة إلى «الدخل الأساسي الشامل» وبموجبه توفّر الدولة حداً أدنى للأجور لكل فرد كحقّ. وأثناء جائحة كورونا، تبنّت العديد من الحكومات مخططات مماثلة. لكن فريدمان، لم يعتبر نفسه محافظاً، بل ليبرالياً دفع في اتجاه تقليص سلطات الدولة في جميع المجالات، وهو رحّب بكل انتصار ضد الأفكار الكينزيّة.
حركة «حفلة الشاي» التي دعت إلى حكومة صغيرة الحجم بدافع من أفكار فريدمان، أطلقت خيال الجمهوريين لمدّة خمسة عقود، وهي نجحت في تغيير الحزب من حزب وسطي محافظ إلى حزب ليبرتاري بشكل واضح. وبعد رئاسة جورج بوش الابن، لم يعد ممكناً لأي جمهوري أن يصبح مرشحاً رئاسياً للحزب إلا إذا وافق على لائحة مرجعية من المعتقدات قائمة معتقد فريدمان أبرزها وجوب صغر حجم الحكومة. لكن في عام 2020 أطلقت هذه الحركة النار على نفسها، عندما اقتحم حشد من أنصار ترامب في 6 كانون الثاني 2021 مبنى الكابيتول في واشنطن، ما أدى إلى تدمير المكاتب والمصنوعات اليدوية والوثائق والآثار، وإجلاء النواب خوفاً على حياتهم، وغزو مجلس الشيوخ نفسه. ولقي خمسة أشخاص مصرعهم نتيجة الفوضى. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن بعض المتظاهرين شكّلوا حشوداً من الغوغاء، معلنين أنهم يعتزمون خطف المشرعين وإعدام نائب الرئيس مايك بنس ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي. وحتى اليوم من غير المؤكّد إذا كان القصد من الاحتجاج العنيف هو تمرّد واسع النطاق للإطاحة بالحكومة، أو مجرد محاولة لإفشال الدستور، أو مجرد مظاهرة تضامنية مفرطة الحماسة مع الرئيس المهزوم، الذي حثّ المتظاهرين على اقتحام الكابيتول. لكن حجم ونزعة المتظاهرين أثبتا أنهما تتويج للمسيرة الطويلة لحجج فريدمان التي تدين الدور المتزايد للحكومة الفيدرالية بخلاف تحجيم سلطة الحكومة أو عدم وجود حكومة في الأساس.
إذا كان إرث فريدمان تجسّد بشكل أفضل في السياسة وليس الاقتصاد، فإن بصمة سامويلسون في الاقتصاد والمجتمع هي أقل وضوحاً ولكنها مع ذلك لا تمحى. ينقسم الرأي حول ما إذا كان سامويلسون قد ترك مدرسة «سامويلسونية» للاقتصاد. لا شك بأن أوراقه البحثية التقنية التي لا تعد ولا تحصى وتدفقت منه بسهولة، كانت لتشكل إنجازاً كبيراً لأي خبير اقتصادي أكاديمي. أدى تطبيقه للرياضيات على علم الاقتصاد إلى تحويله من شيء يشبه فرع الفلسفة إلى علم اجتماعي حقيقي.
ترك سامويلسون سلالة شخصية في مجال الاقتصاد، مثل شقيقه روبرت سمرز، زوجة أخته أنيتا سمرز، وصهره كينيث أرو، وابن أخيه لاري سمرز. جميعهم اقتصاديون مرموقون. لكن أكثر إنجازاته ديمومة كانت في أجيال من الاقتصاديين الشباب حول العالم الذين تعلموا الاقتصاد من كتبه الأكاديميّة، ما جعله أكثر دعاة كينز فعالية. لا يزال التوليف النيوكلاسيكي لسامويلسون هو الدليل الأكثر شهرة لكيفية استخدام الاقتصاد الكلي لتجنب الكوارث الاقتصادية. في الجدل حول تدخل الحكومة في الاقتصاد الذي بدأه كينز وهايك في عام 1931، بإمكان سامويلسون أن يدعي أن مزيجه من التقليدين هو الفائز الحقيقي.
لو سبح فريدمان مع المدّ لكان كل شيء أسهل عليه، لكنه كان ليبرتارياً محصّناً ضد أي نوع من التسوية، معارضاً لسلطة الدولة، مشكّكاً في السياسيّين والبيروقراطيين، غير متأثر بالنوايا الحسنة


حاول سامويلسون توضيح حقيقة أنه كان وفريدمان لديهما الكثير من القواسم المشتركة، لكنهما سلكا طرقاً مختلفة جداً نحو القمة. بالنسبة له كان هذا الاختلاف في الطرق بسبب اختلاف شخصياتهم. لقد تبنّيا وجهات نظر مختلفة حول أكبر حدث في تاريخهم المشترك: الكساد العظيم. كتب سامويلسون: «إذا كان ميلتون الشاب قد تأثّر يوماً ما بالاشتراكية المقنّعة والعقيدة الدينية لخلفية طفولته، فقد تبخّر كل ذلك في ظلّ الأحماض القوية للقانون الاقتصادي». وبينما اختار سامويلسون طريقاً سهلاً على ما يبدو إلى الشهرة والثروة، كان فريدمان بحاجة مستمرة لتحدي أولئك الذين ينتظرونه. كتب سامويلسون :«لو سبح فريدمان مع المد، لكان كل شيء أسهل عليه. لكنه كان ليبرتارياً محصناً ضد أي نوع من التسوية، معارض لسلطة الدولة، مشكّك في كل من السياسيين والبيروقراطيين، غير متأثر بالنوايا الحسنة».
ومع ذلك، كان الحكم النهائي الذي اتخذه سامويلسون أنه، رغم ثقة فريدمان الفائقة بنفسه، فإن تمسّكه بالغاية قد قاده إلى طريق مسدود. سأل سامويلسون أحد آخر من أجرى معهم المقابلات «ميلتون فريدمان لم يرتكب أي خطأ في حياته كلها. هذا رائع، أليس كذلك؟» وأكمل، «فريدمان من أذكى الرجال الذين ستلتقي بهم في حياتك. لكني لا أعتقد أنه يدرك الكم الهائل من الأخطاء التي ارتكبها في حياته. لا أعتقد أنّ أي شخص قد قرأ كل سطر من أعمال ميلتون فريدمان في العالم باستثنائي أنا... معظم نكاتي عن ميلتون فريدمان هي في الواقع حقائق عميقة. أحياناً أقول إنه حصل على معدل ذكاء مرتفع لدرجة أنه لا يحمي نفسه من نفسه. ينظر إلى عمله وهو راضٍ عنه. ومع ذلك، أعتقد أنها مأساة عندما يأخذ شخص ما القطار الخطأ في الحياة».