بعد ثمانين عاماً من مواجهة فون هايك وجون كينز لأول مرة، مَن خرج رابحاً مِن أشهر مبارزة في تاريخ الاقتصاد؟ لعدّة عقود، بدا كينز وكأنه خرج من الشجار مهشّماً إنما منتصراً. ومع ذلك لم يكن انتصاره حاسماً. بحسب كاتب سيرته الذاتية روبرت سكيديلسكي: «كينز هزم هايك في المناقشات الاقتصادية في الثلاثينيات، ليس لأنه «أثبت» وجهة نظره، بل لأنه بمجرد انهيار الاقتصاد العالمي، لم يكن أحد مهتماً بالسؤال عن سبب ذلك بالضبط».
لاحقاً أعلن «موت الكينزية» عدّة مرات منذ منتصف السبعينيات. إلا أن اعتراف ملتون فريدمان عام 1966، بأنه «في بعض النواحي، نحن جميعاً كينزيون الآن؛ وفي نواحي أخرى، لم نعد كينزيون» هو التقييم الأكثر دقة، الذي يمكن استخدامه لشرح حالة الاقتصاد في بدايات القرن الحالي. اليوم في الاقتصاد، تُستخدم مفاهيم عدّة استخلصها كينز، مثل مفهوم الناتج المحلي الإجمالي، وهو أحد الأدوات الرئيسية التي يُقاس من خلالها الاقتصاد، كما تُستخدم نظرياته كأُسس لمفاهيم اقتصادية أخرى. فيقول فريدمان: «جميعنا اليوم نستخدم العديد من التفاصيل التحليلية «للنظرية العامة» (الخاصّة بكينز). ونقبل جميعاً أدوات التحليل والبحث، المعدّلة، التي قدمتها النظريّة».
فريدمان، من خلال وصفاته النقدية، أعاد إنتاج نظريات كينز، لكنه لم يحل مكانه. كتب عام 1970: «استفادت «النظرية النقدية» كثيراً من عمل كينز». «إذا كان كينز على قيد الحياة اليوم، لكان بلا شك في طليعة الثورة النقدية». كان هدف كينز هو إيجاد علاج لظاهرة البطالة الجماعية. واقترح عدداً من الطرق لمواجهتها: من خلال الوسائل النقدية، أي عبر خفض أسعار الفائدة وتحويل أموال جديدة إلى الاقتصاد، ومن خلال الإعفاءات الضريبية، ومن خلال الاستثمارات العامّة.
أقنع فريدمان الاقتصاديين أنه عندما يكون الاقتصاد في وضع متوازن، فهو يخدم بأفضل شكل من خلال زيادة تدريجية ومعتدلة في المعروض النقدي. وعلى هذا الأساس اعتمد الاقتصاديون والسياسيون مبدأ فريدمان من منتصف السبعينيات، كدليل لهم. وقد تخلّوا عن كينز حينها بسبب الاعتقاد السائد بأن تطبيق علاجاته لمدة ثلاثة عقود أدّى إلى حدوث ركود تضخمي. ومنذ عام 1979، بدأ تطبيق مبادئ فريدمان على نطاق واسع. تبنّى فريدمان فكرة كينز عن إدارة الاقتصاد من خلال الاقتصاد الكلي، ووافق السياسيون على ذلك، بمعزل عن خطاب هايك الذي يستخدمونه في بعض الأحيان.
يقدم الموقف الذي اتخذه فريدمان أفضل السبل لمعرفة الفائز في نقاش كينز-هايك. ففي علم الاقتصاد، كان فريدمان أقرب إلى كينز وكان كثيراً ما يمتدح اقتصاداته. وقد اعترف هايك نفسه بذلك. لكن عندما يتعلق الأمر بالسياسة، كان فريدمان أقرب إلى هايك. اعتقد كينز أن تدخّل الدولة كان وسيلة مناسبة لتحسين حياة المواطنين. لكن فريدمان يتفق مع هايك على أنه كلما تدخلت الدولة في الاقتصاد، فإنها تعرقل قدرة السوق الحرّة على تكوين الثروة. وافق فريدمان على خفض الضرائب، ليس لضخّ المزيد من الأموال في الاقتصاد، كما أوصى كينز، ولكن لأنه كان يعتقد أن الحكومة سيتقلّص حجمها نتيجة ذلك. في هذا الصدد، أي من الناحية السياسية، قطع هايك خطوات كبيرة.
بحسب هايك، لا يمكن التنبؤ بما يدور في أذهان كل فرد، لذا إن أفضل مؤشّر لاحتياجات الأفراد المتضاربة هي أسعار السوق. وأي محاولة لتوجيه الاقتصاد، أو التدخل به، هي في غير مكانها. ففي نهاية المطاف، أراد هايك أن تنسحب سلطة الدولة إلى حدها الأدنى، وتمنى أن يرى كل عناصر الاقتصاد، بما فيها إصدار النقود، في أيدي القطاع الخاص. هذا وضعه في معارضة مباشرة لفريدمان. وهذا الأخير بينما كان يرغب في تقليص حجم الحكومة، اعتقد أنه يجب إدارة الاقتصاد بغية توفير نموّ مطّرد. كانت الأداة التي اختارها فريدمان، وهي السياسة النقدية، تتطلب مصرفاً مركزياً تديره الدولة. في المقابل يقول هايك: «أعتقد أنه لولا تدخل الحكومة في النظام النقدي، لما شهدنا عدم استقرار صناعي ولا فترات من الكساد». «إذا وضعت قضية النقد في أيدي الشركات التي تعتمد أعمالها على النجاح في الحفاظ على استقرار الأموال التي تصدرها، فإن الوضع يتغير تماماً».
عندما تستسلم الرأسمالية أخيراً سيكون ذلك بسبب الهتافات المدوية لأولئك الذين يحتفلون بانتصارهم النهائي على أشخاص مثل كينز
الزعيمان اللذان روّجا لمفاهيم هايك، هما رونالد ريغان ومارغريت تاتشر. وقد قطعا مسافة جيدة لتقليص دور الدولة بهدف السماح للمشاريع الحرّة بالازدهار. ففي عام 1989 طُلب من هايك تقييم إنجازات ريغان وتاتشر. لقد اعتقد أن سياساتهم «معقولة، كما أنه يجب أن نتوقعها في هذا الوقت. إنهم متواضعون في طموحاتهم». لم تستطع تاتشر ولا ريغان تحقيق ما يهدف إليه هايك لاستبدال الدولة بالقطاع الخاص. لكن من بين الاثنين، حققت تاتشر القدر الأكبر، رغم أنها بدأت من المكان الأبعد، بعدما ورثت اقتصاداً مختلطاً غير جاهز لإصلاحات هايك. لقد كان خطاب ريغان «الهايكي» مضخّم أكثر من إرادته لتقليص حجم الدولة، وهذا الأمر يشهد عليه تضخم الميزانية الفيدرالية خلال فترة رئاسته.
نجح ريغان وتاتشر في إدارة الديموقراطية التمثيلية. لكن لو شرحنا رؤية هايك الكاملة، لكان من شأنها أن تفتح عليهم باب الاتهام بأنهم غير ديموقراطيين. كان السياسيون الآخرون في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مهتمين بشكل عام بضمان منح الحريات الموعودة للجميع. في المقابل ركز هايك على «يوتوبيا» ليبرالية نظريّة، إذ كان التقدّميون يربحون معارك الحقوق المدنية للأميركيين من أصل أفريقي وغيرها. العديد من الحملات السياسية، مثل الحركة البيئية والتحول الثقافي الزلزالي الذي انبثق من الأعراف المتغيرة في الستينيات، لم تكن مستوحاة من مفاهيم الحوكمة على الإطلاق. بالنسبة للكثيرين، بدت النظرة المادية الخاصّة بهايك غير ذي أهميّة.
ومع ذلك، تحرّك الجدل العام لصالح هايك بشكل بطيء. في تشيلي في السبعينيات، تم استدعاء نظرية هايك لمواجهة الشيوعية. وفيما تمسّكت معظم دول أوروبا الغربية بالاقتصاد المختلط ودولة الرفاهية الاجتماعية، قدّمت التاتشرية في بريطانيا اتجاهاً جديداً تبنّته حكومة حزب العمال لاحقاً برئاسة توني بلير. وفي أميركا، حيث لطالما كانت المشاريع الحرّة عقيدة وطنية، حققت معتقدات هايك أكبر قدر من التقدّم، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الأمّة تأسّست على فكرة أن الأفراد يجب أن يتحرّروا من الحكومة. لقد مارست أجيال من الأميركيين فلسفة هايك قبل وقت طويل من صياغته لها. كان الإيمان بالسوق الجامح مهماً لرجال القرن الثامن عشر الذين كتبوا الدستور. ومع ذلك، فإن الديموقراطية التمثيلية انتُهكت مع مرور الوقت الحريات المطلقة. كما قال عالم السياسة المحافظ آدم ولفسون، نقلاً عن ألكسيس دي توكفيل: «الحكومة الكبيرة (حجماً)، مكتوبة في الحمض النووي السياسي للديموقراطية».
لفت هايك الانتباه إلى التناقض الكامن في جوهر الدستور الأميركي، والذي يبدو أنه يؤيد الحقوق الفردية وسلطات الحكومة الفيدرالية القوية في الوقت عينه. الانزعاج من التأثير الزاحف للحكومة كان الدّافع وراء محاولات القادة مثل غولدووتر وريغان. الحزب الجمهوري، الذي كان في يوم من الأيام موطناً للمحافظين الذين يحتقرهم هايك، أصبح العميل الرئيسي لليبرالية الهايكية. تبنّى الجمهوريون صرخة هايك لحكومة أصغر حجماً وتحدوا الديموقراطيين لذلك. بهذا المعنى، أصبحت السياسة الأميركية سياسة «هايكيّة».
وفي حين أن تأثير هايك تصاعد في الأعوام الثلاثين الماضية، لم يكن كينز بعيداً عن أفكار الاقتصاديين أيضاً. كانت استجابة الحكومة الفيدرالية العاجلة للأزمة المالية عام 2008 كينزية تماماً. فقد تدخلت إدارتَي جورج بوش وباراك أوباما في السوق لدرء انهيار الاقتصاد. واجهت أميركا تهديداً وجودياً حينها، وكما في الثلاثينيات، لم يكن هناك أمام الإدارة الأميركية سوى الاستجابة.
في ذروة الأزمة، لم يعترض إلا القليل على عودة الكينزية، والأقل عدداً من هؤلاء هم من قدّموا الحلّ «الهايكي» للأزمة بالسماح للسوق بإيجاد توازنه الخاص. لم يُسمح باختبار وجهة نظر الفيلسوف السياسي النمسوي ــ الأميركي جوزيف شومبيتر بأن السوق الحرّة يجب أن تتحمّل من وقت إلى آخر فترة من «التدمير الإبداعي». الافتراض السائد بأن السوق الحرة تصحّح نفسها دائماً بمرور الوقت لم يُمنح فرصة ثانية. وقليلون هم الذين حاولوا تصوّر العواقب الوخيمة التي قد تصاحب انهيار الاقتصاد: كم عدد العاطلين عن العمل؛ وكم عدد المحرومين من منازلهم؛ وكم عدد الأشخاص الذين أعلنوا إفلاسهم؛ كم عدد الشركات التي أغلقت.
تلقى بوش وأوباما القليل من المديح في اتخاذهما إجراءات عاجلة لتجنّب الكارثة الاقتصادية. وأثبتت الكينزية أنها ليست الدواء الشافي. فقد فشلت برامج التحفيز الاقتصادية في تقليل أعداد العاطلين عن العمل بشكل سريع، وبدأ الكلام عن الأموال «المهدورة» للبرامج العامة، وبدأ العديد من الأميركيين يشعرون بالقلق من مستوى الاقتراض الحكومي. بالنسبة للبعض، مثل أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفرد روبرت بارو، أصبح كينز محط سخرية، فهو عازف مزمار استدرج أطفال الأجيال القادمة إلى كهف مظلم من المديونية التي لا تُطاق. واتّهم آخرون أوباما ومستشاريه الاقتصاديين بأنهم اشتراكيون مختبئون. وعادت إلى الواجهة حجّة هايك بأن الأموال العامة ستُهدر في الاستثمارات.
أصاب الأوروبيين شعور مماثل بالقلق. لكن بالنسبة لهم، لم يكن اختيار كينز على هايك وسيلة للخروج من أزمة مالية أخرى لضمان بقاء اليورو والحفاظ على وتيرة التكامل السياسي الأوروبي. بقيادة الألمان، الذين دفعوا الأموال لمدة ستين عاماً لضمان نجاح الاتحاد الأوروبي، أصبح الأوروبيون خائفين من أنّ أزمات الديون السيادية في اليونان وأيرلندا والبرتغال وأماكن أخرى قد تؤدّي إلى أزمة لا رجعة فيها على اليورو. تصرّف الألمان، ولكن على حساب الإجراءات الكينزية التي خفّفت من أسوأ آثار الأزمة المالية. كان ثمن الاستمرار في التكامل السياسي الأوروبي هو خفض المعروض النقدي والخفوضات الكبيرة في الإنفاق العام.
وتعرّضت بريطانيا أيضاً لضغوط، إذ وقفت بين خيار فرض خفض الإنفاق العام، أو مواجهة أزمة الجنيه الإسترليني. بعد الانتخابات العامة لعام 2010 التي لم يفز فيها أي حزب بالأغلبية، أعلن ائتلاف ديفيد كاميرون من المحافظين والديموقراطيين الأحرار تجربة غير مسبوقة في تقليص القطاع العام البريطاني: خفوضات بنسبة 10% في الإنفاق تم تحديدها في السنة الأولى؛ مع هدف خفض بنسبة 25% في نهاية ولاية البرلمان التي تمتدّ لخمس سنوات. بقي تبنّي حلّ «هايكي» متداولاً بين المحافظين البريطانيين، مثل وزير الخارجية ويليام هيغ ووزير العمل دنكان سميث، اللذان كانا يحلمان منذ فترة طويلة بإكمال ثورة تاتشر. كان إحياء العصر الثاني لكينز قصير الأمد، لكن استدعاء اسم هايك ظلّ مثيراً للانقسام لدرجة أن القليل من الذين دافعوا عن تصغير حجم الدولة يمكنهم حمل أنفسهم على تسمية مصدر إلهامهم (أي هايك). في المقابل لم يعترف هؤلاء أيضاً لكينز بإنقاذه الرأسمالية مرتين في ثمانين عاماً.
مثل كينز وهايك، لم يعش جون كينيث غالبريث لرؤية الركود العظيم، لكن كان لديه تفسير لماذا لا يستطيع المحافظون الإشادة بكينز لإنقاذ الرأسمالية للمرة الثانية. لاحظ غالبريث أن: «كينز كان مرتاحاً للغاية للنظام الاقتصادي الذي استكشفه ببراعة. لذا فإن الدّفع العريض الذي تلّقته جهوده، مثلما فعل روزفلت، كان محافظاً بعض الشيء؛ وكان الهدف منه هو المساعدة على ضمان بقاء النظام. لكن مثل هذه النزعة المحافظة في البلدان الناطقة باللغة الإنكليزية لا تروق للمحافظين المتزمّتين... هم يفضلون قبول البطالة والمصانع المعطلة واليأس الجماعي في الكساد الكبير، مع كل الضرر الناتج عن ذلك لسمعة النظام الرأسمالي، على التراجع عن أساس مبادئهم الحقيقية... لكن عندما تستسلم الرأسمالية أخيراً، سيكون ذلك بسبب الهتافات المدوية لأولئك الذين يحتفلون بانتصارهم النهائي على أشخاص مثل كينز».