في المئة عام الماضية، شهدت أميركا نظامَين سياسيَّين: نظام «الصفقة الجديدة» الذي نشأ في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، والذي بلغ ذروته في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وسقط في السبعينيات. والنظام النيوليبرالي الذي نشأ في السبعينيات والثمانينيات، وبلغ ذروته في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وسقط في نهاية هذا العقد.
في قلب كلٍّ من هذين النظامَين السياسيين كان هناك برنامج اقتصاد سياسي مختلف. تأسّس نظام «الصفقة الجديدة» بعد الاقتناع بأنّ ترك الرأسمالية تعمل بهواها سبّب كارثة اقتصادية (الكساد الكبير عام 1929). كان لا بد من إدارة الرأسمالية من قبل دولة مركزية قوية قادرة على حكم النظام الاقتصادي لخدمة الصالح العام. على نقيض ذلك، كان النظام النيوليبرالي قائماً على الاعتقاد بوجوب تحرير قوى السوق من الضوابط التنظيمية الحكومية التي تُعيق النمو والابتكار والحرية. شرع مهندسو النظام النيوليبرالي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في تفكيك كل شيء شيّده نظام «الصفقة الجديدة» خلال فترة الأربعين عاماً السابقة.
تتكشّف هذه القصّة في ثلاثة أحداث: الأول هو صعود رونالد ريغان في السبعينيات والثمانينيات واندفاعه نحو مبدأ السوق الحرة؛ والثاني هو ظهور بيل كلينتون في التسعينيات باعتباره «أيزنهاور الديموقراطيين»، أي الرجل الذي رتّب تقبّل حزبه للنظام النيوليبرالي؛ والثالث يستكشف تصميم جورج بوش على تطبيق المبادئ النيوليبرالية في كل مكان، في مشاريع تختلف اختلافاً جذرياً مثل بناء عراق ما بعد صدام حسين وجعل أميركا أمّة أكثر مساواة عرقياً. محاولة بوش لتعميم المبادئ النيوليبرالية عالمياً أتت على شكل غطرسة أكثر من كونها معاينة جادة للمشكلات الموجودة بين يديه، التي دفعت الاقتصاد الأميركي في النهاية إلى أسوأ أزمة له منذ الكساد الكبير.
معاينة النيوليبرالية
النيوليبرالية هي عقيدة تثمّن التجارة الحرة وحرية حركة رأس المال والسلع والأشخاص. وهي تروّج لإلغاء الضوابط التنظيمية لأنّ القيمة الاقتصادية تنتج عندما لا تستطيع الحكومات التدخّل في عمل الأسواق. يثمّن هذا النظام السياسي الكوزموبوليتية باعتبارها إنجازاً ثقافياً ناتجاً من الحدود المفتوحة وما يترتب على ذلك من اختلاط طوعي للشعوب المتنوّعة. تُشيد النيوليبرالية بالعولمة باعتبارها موقفاً يربح فيه الجميع ويثري الغرب (قمرة القيادة للنيوليبرالية) بينما يجلب أيضاً مستوى غير مسبوق من الازدهار لبقية العالم. شكلت هذه المبادئ العقائدية هيكل السياسة الأميركية خلال ذروة النظام النيوليبرالي.
سعت النيوليبرالية إلى إغراق الاقتصاد السياسي بمبادئ الليبرالية الكلاسيكية. هذه الآخرة (التي ولدت في القرن الثامن عشر) تميّزت في الأسواق بديناميكية غير عادية، كما تميّزت بإمكانات لتوليد التجارة والثروة. لقد سعت إلى تحرير الأسواق من مختلف الأنظمة: المَلَكيّة، المذهب التجاري (أو الميركانتيلية)، والبيروقراطية، والحدود المصطنعة، والتعرفات الجمركية. بعبارة أخرى، سعت إلى تحرير الاقتصاد من قبضة الدولة بأشكالها المختلفة. أرادت السماح للناس بالتنقل سعياً وراء المصلحة الذاتية والثروة، من خلال الشحن والمقايضة والتجارة بالشكل الذي يرونه مناسباً. أرادت الليبرالية الكلاسيكية أن تترك المواهب الفردية ترتفع (أو تنخفض) إلى مستواها الطبيعي. لقد حملت في داخلها آمالاً تحرّرية، بل طوباوية، لشعوب محرّرة وعالم متحول.
من خلال انهيار الشيوعية تخلّصت الرأسمالية من أشد معارضيها. وبعد ذلك أصبح ممكناً ضمّ مناطق وشعوب جديدة شاسعة إلى السوق الرأسمالية الموحدة. بدت احتمالات النموّ والأرباح غير محدودة
لقد تم توثيق انتشار النيوليبرالية وجذورها بشكل جيد من قبل مجموعة متنوّعة من العلماء. لكن، بشكل عام، ما هو مفقود من دراسات جذور ومدى انتشار النيوليبرالية، هو تأثير الاتحاد السوفياتي والشيوعية على هذا المسار. إذ لا يمكن تجاهل الاتحاد السوفياتي والشيوعية الدولية في هذا السياق. قليلة هي الأحداث الدولية في القرن العشرين التي تضاهي الثورة الروسية عام 1917 لجهة الأهمية. ففي الخمسين عاماً التي أعقبت صعود الشيوعيين إلى السلطة في روسيا، جرى عزل أجزاء كبيرة من العالم (مثل الاتحاد السوفياتي نفسه، نصف أوروبا والصين) عن الاقتصاد الرأسمالي. في الثلث الأول من حقبة الحرب الباردة، كانت الشيوعية تشكل تهديداً خطيراً في أوروبا الغربية. وخلال الثلثين الأولين من الحرب الباردة، شكلت الشيوعيّة تهديداً مشابهاً عبر عدد لا يُحصى من الدول الناشئة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. في هذه الأثناء، في الولايات المتحدة، ومنذ العشرينيات، كانت الشيوعية تعدّ تهديداً مميتاً لطريقة الحياة الأميركية. علماً بأنّ الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية خفّفا من معاداة أميركا للشيوعية، ولكن هذا الأمر كان مؤقتاً. فلم يكن لأي قوّة سياسية تأثيراً مماثلاً لتأثير الشيوعية على العالم أو السياسة الأميركية عبر القرن العشرين.
قليلة هي الروايات النيوليبرالية التي تعامل سقوط الاتحاد السوفياتي بين عامَي 1989 و1991 وانهيار الشيوعية، باعتبارها الخصم العالمي الرئيسي للرأسمالية، على أنهما أحداث أساسية في مسار صعود النيوليبرالية. لكن في الواقع، إنّ عواقب سقوط تلك الإمبراطورية والهزيمة المتزامنة لإيديولوجيتها كانت هائلة. فقد جعل هذا الحدث انتصار النيوليبرالية الأميركية والعالمية ممكناً.
إنّ إحدى نتائج سقوط الشيوعية واضحة: لقد فتحت جزءاً كبيراً من العالم (روسيا وأوروبا الشرقية) للتغلغل الرأسمالي. كما أنها وسّعت بشكل كبير من رغبة الصين (التي لا تزال اسمياً دولة شيوعية) لتجربة الاقتصاد الرأسمالي. وهكذا أصبحت الرأسمالية عالمية في التسعينيات بشكل لم تشهده منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى. لا يمكن تصور العالم المعولم الذي سيطر على الشؤون الدولية في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي بصرف النظر عن انهيار الشيوعية.
أما النتيجة الأخرى لسقوط الشيوعية، فهي أقل وضوحاً ولكنها ذات أهمية متساوية: فقد أزال هذا السقوط ضرورة التسوية الطبقية بين النخب الرأسمالية والطبقات العاملة. دفعت الشيوعية النخب الرأسمالية في البلدان الصناعية المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة، إلى التسوية مع خصومهم الطبقيين بطرق لم تكن لتفعلها لولا وجود خطر الشيوعية. الخوف من الشيوعية دفع إلى التسوية الطبقية بين رأس المال والعمل، وهي تسوية قام عليها نظام «الصفقة الجديدة». كما دفع إلى تقديم حلول وسط طبقية مماثلة في العديد من الديموقراطيات الاجتماعية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
وبالتالي، من خلال انهيار الشيوعية تخلّصت الرأسمالية من أشد معارضيها. وبعد ذلك أصبح ممكناً ضمّ مناطق وشعوب جديدة شاسعة إلى السوق الرأسمالية الموحدة. بدت احتمالات النموّ والأرباح غير محدودة. وبطبيعة الحال، استفادت الولايات المتحدة من هذا النمو. وأصبح بإمكانها التخلّص من التسوية الطبقية التي شكلت أساس أمر «الصفقة الجديدة». فلم يعد هناك تيار يساري متطرّف تخاف منه. هذا الأمر فتح المجال أمام ازدياد الفروقات بين الطبقات الاجتماعية ما مهّد لعصر سقوط النيوليبرالية الذي نعيشه منذ عام 2010.
ملامح الانهيار
استمرّ نهج النيوليبرالية في الصعود حتى نهاية العقد الأول من القرن الحالي. ففي السنوات التي أعقبت الانهيار المالي العظيم عامَي 2008 و2009، بدأت مجموعات مختلفة من الأميركيين في تحويل مِحَنِها الاقتصادية إلى غضب سياسي واحتجاج. أطلق البيض الذين رأوا أنفسهم يقفون خارج الممرات المزدهرة للنظام النيوليبرالي، اقتصادياً وثقافياً، حركة «حفل شاي» من أجل استعادة أمتهم. وهي كانت حركة سياسية أميركية، محافظة لجهة السياسة المالية، داخل الحزب الجمهوري. ودعا أعضاء هذه الحركة إلى خفض الضرائب وخفض الدين القومي وعجز الميزانية الفيدرالية من خلال خفض الإنفاق الحكومي. وأطلق شباب من أعراق مختلفة حركة أخرى. فهم اكتشفوا أنّ الأزمة الماليّة العالمية بخّرت الفرص الاقتصادية التي اعتقدوا أنها ستسنح لهم، ثم استولوا على حديقة صغيرة في مانهاتن السفلى، معلنين أنهم أتوا «لاحتلال وول ستريت»؛ لقد مكثوا شهوراً وأطلقوا احتجاجات ضدّ اللامساواة الاقتصادية. وأخيراً، تحوّل غضب السود، من التأثير الوحشي لفقاعة الإسكان المتفجّرة، وعنف الشرطة في مجتمعاتهم، إلى شعار التحدّي والانتفاضة، تحت شعار «حياة السود مهمّة».
لم تكن أي من حركات التمرّد هذه، بمفردها، كبيرة أو مؤثّرة مثل الحركات الحقوقية أو المناهضة لحرب فيتنام في الستينيات (أو الحركة العمالية في الثلاثينيات). لكن الثلاثة مجتمعة أحدثت اضطراباً عميقاً في السياسة الأميركية، ما أدى إلى صعود دونالد ترامب وبيرني ساندرز إلى الواجهة السياسية ما أنتج عام 2016 واحدة من أكثر الحملات الانتخابية شهرة في التاريخ الأميركي. كانت هذه هي اللحظة التي بدأ فيها النظام النيوليبرالي في أميركا في الانهيار. بداية الانهيار لا تأتي انطلاقاً من التمرّد السياسي أو الإيديولوجي، ولكنها تسرد الضائقة الاقتصادية والإنسانية التي أرست الأساس لانفجارات سياسية استمرت عقداً من الزمن، وأوصلت النيوليبرالية إلى ما هي عليه اليوم.
هذا المقال مقتطف من مجموعة أجزاء وردت في كتاب «صعود وسقوط النظام النيوليبرالي: أميركا والعالم في عصر السوق الحرّة» لمؤلّفه
غاري غيرتسل