يستنتج الكتاب وجود أربعة وجوه للأزمة؛ أولها اضطراب التوازن بين العلوم الثلاثة الطبيعية والإنسانية والاجتماعية/الاقتصادية، وثانيها اختلال التوازن أيضاً بين العلوم النظرية والعلوم التطبيقية التي بات بيدها زمام المبادرة، وثالثاً فشل العلوم الاجتماعية والإنسانية في المساعدة على تحقيق التكيّف الاجتماعي مع الموجات التكنولوجية المتواترة، والتي خلّفت وراءها انحناءات في الفضاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وتلوح في أفق الأزمات رابعاً التبعية المتزايدة في مشاريع البحث العلمي للتمويل والبيروقراطيات الحكومية والشركات الضخمة، التي انتقل الولاء إليها بدلاً من المؤسّسات والمعاهد الأكاديميّة والجامعية الأمّ، ويزداد إلى جانبها خضوع أجندات البحث العلمي ومواضيعه لمتطلبات الصراع والحروب والمشاريع العسكرية.

وقد تُعزى العثرات المزروعة في طريق العلم إلى الاقتصاد السياسي لتمويل الأبحاث، أو إلى سوسيولوجيا العلم التي تعكسها الانقسامات غير المبرّرة في مجتمع البحث العلمي والمنافسة غير النزيهة بين باحثيه. وقد ظهر واضحاً بدلالة الجائحة وغيرها من الكوارث، أنّ قوانين السوق لا تصلح لحلّ مشكلة الإنتاج العلمي على المدى الطويل لانحيازها إلى تلبية الحاجات المباشرة، وضعف قدرتها على التقاط الطلب الاجتماعي والتعامل الاستباقي مع الكوارث.


لكن المشكلة حسب الكاتب تتّخذ طابعاً خاصاً في علوم الإنسان بسبب توظيفاتها الإيديولوجية والسلطوية. فقد تناوبت المدارس الفكرية الغربية ذات الاتجاهات المختلفة على تسخير هذه العلوم لمصلحة تفسيرات أُحادية الجانب، ولخدمة أشكال معيّنة من السلطة الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولدعم مشاريع عالمية للتسلّط والهيمنة.
ومع ذلك كانت العلاقة جدلية بين السلطة والمعرفة. لقد فعلت الأفكار فعلها في التاريخ السياسي العالمي، إذ لا يمكن إغفال دورها في الثورتَين الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر والبلشفية في بداية القرن العشرين، وكذلك دور «الروحانية السياسية» والإسلام خصوصاً في انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية التي عبّرت عن توق دول الجنوب إلى التحرّر من هيمنة الشمال انطلاقاً من قيمه الذاتية وتصوّراته الخاصة للعالم. وعلينا أن نتذكر أيضاً كيف أثّرت أفكار كينز مثلاً في إسباغ المشروعية العلمية على تدخّل الدولة في العديد من الاقتصادات الرأسمالية، وكيف استفادت الدول الغربية من أفكار فريدمان وهايك وغيرهما في تعميم الوصفة النيوليبرالية المتمثّلة في بنود إجماع واشنطن، فضلاً عن نظريّات التنمية التي فرضت نفسها على الدول والمؤسّسات العالمية في الربع الثالث من القرن الماضي.
وفي المقابل استغلّت السلطات المختلفة العلوم الاجتماعية والإنسانية في فرض هيمنتها الإيديولوجية على مجتمعاتها، وكانت في أحيان كثيرة السلاح الأمضى في فرض التغيير السياسي بالعنف والقوة والإكراه. كما كانت وسيلة لفهم المجتمعات المستهدفة وتفكيكها وإعادة إنتاجها. لقد ترك ذلك تأثيرات لا تُمحى في مسيرة هذه العلوم، فأعطى أفضلية لفروع علمية ومعارف على غيرها، وأضفى مشروعية مضاعفة على نظريات ومدارس فكرية وعلمية ونزَعَها عن أخرى. وفي كثير من الأحيان كانت مصالح الدول والفئات النافذة والطبقات المسيطرة أقوى من المناهج في تشكيل النماذج الإرشادية العلمية، وغالباً ما تكيّفت المدارس والنظريات العلميّة مع ظروف المجتمعات ومتطلبات المرحلة التاريخية أكثر مما حصل العكس.
يوضح الكتاب أنّ بؤرة الأزمة هي في هيمنة الاستقطابات الفكرية ما بين المادية والمثالية تارة، والفردانية والجماعية تارة أخرى، أو بين مذهب العدالة ومذهب الحرية في حالات أخرى. ففي التطبيق كان الجماعاتيون مثلاً يقدّمون العدالة على الحرية، لكن في نهاية المطاف كان الانتقاص من الحريّة يرتدّ سلباً على العدالة، أمّا الفردانيون فاكتفوا بالحرية السلبية من دون الإيجابية، ما أدّى إلى زيادة التفاوت وعدم المساواة، وحرمان فئات واسعة من البشر من القدرات اللازمة لممارسة الحريات المسموحة لها.
لقد تقدمت العلوم الإنسانية أشواطاً إلى الأمام، وحقّقت للبشرية ما حقّقته من معرفة وعقلانيّة ووعي وإدراكٍ للذات والعَالم، لكنها ما زالت تدور في مدارات منفصلة ومنغلقة على نفسها، ومسيّرة بجاذبيات السلطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وللأسف الشديد لم تفلح علوم الإنسان بفروعها المتعدّدة في أن تكون القُطب الموازن لتطبيقات العلوم البحتة والدقيقة، التي ألقي حبلها على الغارب في إنتاج أدوات القتل والتدمير، وفي توسيع اقتصاديات التسلية والترفيه على نحو مضرّ ومبالغ به، ولم تمنع الحداثة والعقلانية نشوء الفاشيات والديكتاتوريات المادية العنيفة التي قتلت عشرات ملايين الأشخاص في حربين عالميتين وملايين أخرى في حروب إقليمية. وتمكنت الليبرالية الجديدة في فرض نفسها بوصفها «النظرية الصحيحة» من دون منازع، فاتسعت التباينات الاجتماعية والمعيشية على المستوى العالمي، وانتشر الفقر والجوع والظلم الاقتصادي.
قد نكون بحاجة إلى ثورة علميّة ما في المعارف المرتبطة بالإنسان والمجتمع والروح، قائمة على الوصل من ناحية مع ما تحقّق من كُشوفات وإنجازات في تلك المعارف، وعلى القطيعة من ناحية ثانية مع النظريات والتحليلات التي أبطأت صعودها وأثرت سلباً في استقامتها. ونقطة البدء في ذلك هي التخلّص من خمسة أوهام يفترض الكتاب أن أزمة العلوم، الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، نُسجت من خيوطها:
- الأول: وهم الحتمية التاريخية التي تمثّلها قوانين ومسارات لا يمكن مقاومتها.
- الثاني: وهم العقلانية والرشد المطلقَين عند البشر، واللذين يفضيان إلى الفردانية وإلى أشكال أخرى من الحتميّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسلوكيّة.
- الثالث: وهم انفصال السلطة عن المجتمع ما يخلي ساحتَها من تهمة التلاعب بالمعرفة في سبيل فرض الانضباط في الداخل ونشر الهيمنة في الخارج.
- الرابع: وهم التقدم الإنساني المطّرد والبنّاء من خلال مراكمة المعارف أو تسلسل الوقائع، أو بما تؤدي إليه الصيرورات الثورية.
- الخامس: وهم الهويّات المختزلة في بُعد واحد ما يجعلها أساساً للصراع وللمقاربات التحريفية عن الإنسان والمجتمع والدولة.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك وهماً سادساً، ما لم يكن خطراً داهماً، هو الحتمية التكنولوجية التي تصنع التاريخ، وتجعل الأشياء متشابهة أكثر فأكثر.
يرى الكاتب أنّ المطلوب هو تمكين هذه العلوم من ترسيخ دورها التفسيري والتأويلي، وتثبيت قدرتها على الإجابة عن الأسئلة المتجدّدة والمتزايدة في واقع معقّد ومتغيّر، ولا يكون ذلك إلّا في إطار مجمّعات علمية مستقلّة وقويّة، ومن خلال فكرة مركزية هي الآتية: إنّ التغيير والترقّي يجب أن يكونا بأيدي البشر وبإرادتهم لا رغماً عنهم أو استجابة لعوامل ماديّة أعلى منهم. فالإنسان أقوى من «القوانين» الاجتماعيّة والحتميّات التاريخيّة والمعادلاتِ الرياضيّة، ومن المنزلقات التي تتسبب بها التقنية، بل إنه سبب وجودها ومصدر قوّتها واستمرارها. فالصيرورات التاريخيّة ليست قدراً لا يُرَد، والمعادلات الرياضية ليست قوانين في الاقتصاد والاجتماع لا تُخرَق، والتصورات البشرية للصواب والخطأ ليست خالدةً وعصيّة على التطور، والتكنولوجيا ليست مستقلّة بأي حال عن ميول الناس البشر وتوجهاتها.
إنّ رحلة الخروج من الأزمة تبدأ بإعطاء قيمة متساوية للعلوم وثقافاتها المتعددة، وتحقيق التكامل وتفعيل الضبط المتبادل في ما بينها، وانتزاع زمام القيادة من يد التكنولوجيا المحكومة لمجتمع الاستهلاك أو المنشئة له. وبذلك تصبح الجادّة التي تسير عليها العلوم نحو المستقبل أكثر رحابة، ولديها ما يكفي من السعة لاستيعاب جميع المسارات الممكنة والضرورية. ولا نعود مضطرين، والحال هذه، إلى المفاضلة مثلاً بين تطوير تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات، أو زيادة جهوزيتنا لمواجهة الجوائح، أو إقامة أنظمة مبكرة لرصد الكوارث والمعالجة الاستباقية لها، كما لا نكون ملزمين مثلاً بتطوير دراسات الاقتصاد الجزئي ذات الطابع الرياضي، على حساب أبحاث التنمية التي تعطّل نموّها تقريباً في الربع الثالث من القرن الماضي. ولا يكون نجاح برامج غزو الفضاء والوصول إلى عمق الأفلاك السماوية متزامناً بالضرورة مع انهيار مفاجئ لأبحاث الحرب ضد مرض السرطان، كما حصل في سبعينيات القرن الماضي.
إنّ أبرز ما يخلص إليه هذا الكتاب، هو أن حضور السوق بات مقرِّراً في رسم مصائر البشر، مع أن غطاءها الإيديولوجي المتمثّل في العولمة والليبرالية الجديدة آخذ بالذبول. لقد مسّ ذلك بالصميم فرادة الإنسان في صِلاتِه المتنوّعة بالبيئة الطبيعيّة والاجتماعيّة والثقافيّة المحيطة به، وهي التي قامت بالأساس على التفاعل والتأثير المتبادل، فيما جعلها ما يطلق عليه «العلم الجديد» ذو النزعة النفعيّة، علاقة استغلال وتبعيّة واستخدام. لقد انعكس ذلك على مسارات العلم الطبيعي الذي انصاع إلى متطلبات التكنولوجيا المنقادة بدورها للرغبات، علماً بأنّ الرغبات لم تعد نابعة من التوق الذاتي لتعظيم الإشباع من خلال الاستهلاك، بقدر ما غدت استجابة لنداء خارجي تطلقه باستمرار الشركات الكبرى والرساميل العابرة للحدود.
لقد عجزت العلوم الإنسانية عن كبح جماح التكنولوجيا وأخفقت في الحؤول بينها وبين التحكّم بالحياة، ولذلك صارت جزءاً من تفاعل الآلة والسوق والسلطة. وفي المنظور الليبرالي يُعمل على حصر تلك العلوم في النطاق الخاص للأفراد، وبدعوى الدفاع عن الحريّة يجري فصلها أيضاً عن الثقافة، لأنها تحمل في طياتها، وفق هذا المنظور، قيوداً جبريّة آتية من الماضي. وسنلاحظ آثار ذلك في فهمنا للقيم التأسيسية الكبرى التي قامت وتقوم عليها نُظمنا ومؤسّساتنا وعقودنا الاجتماعية وتجاربنا في العيش، ونراه كذلك متجلياً في تزييف المعنى أو تغييبه، من خلال جعل عالم الأشياء أساساً لكل ما نصبو إليه ومصدراً لكل قيمة في الحياة.
قوانين السوق لا تصلح لحلّ مشكلة الإنتاج العلمي على المدى الطويل لانحيازها إلى تلبية الحاجات المباشرة وضعف قدرتها على التقاط الطلب الاجتماعي والتعامل الاستباقي مع الكوارث


وفي عالم الأشياء هذا، تتحقّق الحريّة مثلاً من خلال إطلاق إرادة الفرد من كل ما يقيّدها، سعياً وراء تلبية حاجاته وإطفاء رغباته وشهواته، ضمن حدود تنتهي عندما يماثلها من رغبات وحاجات عند الآخرين، أمّا القيود الأخرى المستمدّة من نظرة المجتمع لنفسه وتصوراته عن القِيَم والمبادئ العليا الجديرة بالاتباع، فيجري تجاوزها وإنكارها أو نزعها بلا هوادة. وعلى عكس ذلك، يُنظر إلى الحريّة في المنطق الجماعاتي المتقاطع مع الفهم الديني، بأنها عمليّة تعلّم وتأهيل مستمرَين هدفها تأهيل الأفراد للتكيّف مع مبادئ المجتمع وتجسيد منظوره للخير العام.
ويحفل العالم في القرن الأخير بأمثلة عن العواقب الخطيرة لإعلاء شأن الإرادة الفردية التي تحرّكها الحاجات والرغبات على الإرادة الجماعية المدفوعة بالقيم الجماعية والمصالح العامة وعوامل الانتماء. لكن هل كان هذا هو طريقنا الوحيد؟ وهل يمكن حصر دور العلوم ومناهجها في تحقيق غايات وأهداف نابعة من الاندماج المقيت بين السلطة والآلة وناتجة عنها؟ إنّ بوسع سفن البشرية في واقع الحال، أن تبحر خارج المضائق التي حُصرت داخلها، وبعيداً عن الأعاصير التي حرّكتها رياح الحداثة وما بعدها والعولمة والتكنولوجيا والليبرالية، وهذه وتلك تؤدي أدوارها على مسرح يرسم حدود السلطة ويتحدّد بها في آن معاً.
إنّ هذا يلقي على عاتق العلم بفروعه كافة، واجبات كثيرة لا يمكن تحقيقها إلّا من خلال تضافر الجهود وتكامل المناهج، والغاية كل الغاية أن نحيا في عالم يبحث عن اليقين ولا يحتفل بالشك، ويجدّد الثقة بوجود الحقيقة بدلاً من الغوض في نسبيّة لا قرار لها، وهذه بداية لا بد منها للتقدم إلى الأمام بلا قطيعة مع الماضي ومن دون حمل كلّ أوزاره.