إنه الوقت المناسب للاشتراكية، هو العنوان الذي خطّه الاقتصادي توماس بيكتي لكتابه الصادر أخيراً. هو عبارة عن تجميع مقالات تخلص بنتيجتها إلى أن الاشتراكية ضرورة، لأنه لا يمكن لأحد أن يكون مع الرأسمالية أو النيوليبرالية التي لا مستقبل لها بل تستزف موارد الكوكب وتعمّق اللامساواة. لكن الأمر بالنسبة إليه ليس عبارة عن موقف، إذ لا يكفي أن تكون ضدّ النيوليبرالية، بل يجب أن تكون مع نظام اقتصادي بديل. هذا النص هو عبارة عن مجموعة مقالات يخلص فيها بيكتي إلى أهمية الاشتراكية باعتبارها نظاماً بديلاً يمكن التمسّك به بعد «موت» الشيوعية وفي مواجهة النظام السائد. وما هو منشور هنا ليس سوى بعض مقتطفات وردت في مقدّمة الكتاب قد تختصر الفكرة الأساسية من إصداره

كأحد مواليد عام 1971، أنتمي إلى جيل لم يكن للشيوعية الوقت لتغريه، وهو جيل أصبح راشداً عندما صار الفشل المطلق للسوفياتية واضحاً. مثل كثيرين، كنت أميل أكثر إلى الليبرالية من الاشتراكية في التسعينيات، وكنت فخوراً كالطاووس لملاحظاتي الحكيمة، وأشكّك في من هم أكبر مني سناً، وكل من كانوا «يحنّون إلى الماضي». لم أستطع تحمّل أولئك الذين رفضوا بعناد رؤية أن اقتصاد السوق والملكية الخاصة هو جزء من الحلّ.
لكن الآن، بعد ثلاثين عاماً، في عام 2020، بلغت «الرأسمالية المفرطة» مراحل تخطّت الحدود. أنا الآن مقتنع بأننا بحاجة إلى التفكير في طريقة جديدة لتجاوز الرأسمالية نحو شكل جديد من الاشتراكية، شكل تشاركي ولامركزي، فيدرالي وديمقراطي، يراعي البيئة ويساند حقوق المرأة ومختلف الأعراق.
وحده التاريخ سيقرّر ما إذا كانت كلمة «اشتراكية» قد أصبحت ميتة نهائياً ويجب استبدالها. من ناحيتي، أعتقد أنه يمكن إنقاذها، وحتى أنها تظل المصطلح الأنسب لوصف فكرة نظام اقتصادي بديل للرأسمالية. على أي حال، لا يمكن للمرء أن يكون «ضدّ» الرأسمالية أو النيوليبرالية فقط، بل يجب عليه أيضاً أن يكون «مع» نظام آخر. الأمر الذي يتطلب منه أن يحدّد بشكل دقيق النظام الاقتصادي المثالي الذي يرغب في إقامته، أي المجتمع العادل الذي يتخيّله، أياً كان الاسم الذي يقرره لهذا النظام. فقد أصبح من الشائع القول إن النظام الرأسمالي الحالي ليس له مستقبل، لأنه يعمّق هوّة اللامساواة ويستنزف موارد الكوكب. هذا ليس خطأ، إلا أنه في حالة عدم وجود بديل واضح، يبقى عمر النظام الحالي مديداً.

المسيرة الطويلة نحو المساواة والاشتراكية التشاركية
لنبدأ بجملة قد يجدها البعض مفاجئة. إذا أخذنا الأمر من منظور بعيد المدى، فإن المسيرة الطويلة نحو تحقيق المساواة والاشتراكية التشاركية قد بدأت بالفعل على قدم وساق. لا توجد استحالة تقنية تمنعنا من الاستمرار في هذا المسار، المفتوح بالفعل، طالما أننا جميعاً نتفق على أن نواصل به. يُظهر التاريخ أن اللامساواة هي أساساً مبدأ إيديولوجي وسياسي، وليست أمراً اقتصادياً أو تكنولوجياً.
قد تبدو وجهة النظر المتفائلة هذه متناقضة مع الأوقات الكئيبة التي نعيشها. إلا أنها تتوافق مع الواقع. تم تقليص اللامساواة بشكل حادّ على المدى الطويل. ويعود الفضل في ذلك، بشكل خاص، إلى السياسات الاجتماعية والمالية الجديدة التي أُدخلت خلال القرن العشرين. نعم، لا يزال هناك الكثير من الأمور التي يجب القيام بها، ولكن الحقيقة هي أنه يمكن المضي قدماً من خلال الاستفادة من الدروس التاريخية.
لننظر، على سبيل المثال، في تطور تركّز الملكية على مدى القرنين الماضيين. يمكننا أن نرى أن حصة أغنى 1% من الناس، من إجمالي الممتلكات (أي إجمالي الأصول العقارية والمالية والمهنية، صافية من الديون) كانت في مستوى مرتفع طوال القرن التاسع عشر وحتى البداية من القرن العشرين. هذا يدلّ، بالمناسبة، على أن وعد الثورة الفرنسية بالمساواة كان نظرياً أكثر منه حقيقياً، على الأقل لجهة إعادة توزيع الملكية. يمكن بعد ذلك ملاحظة أن حصة أغنى 1% من السكان انخفضت بشكل حادّ خلال القرن العشرين: كانت نحو 55% من إجمالي الثروة عشية الحرب العالمية الأولى، وهي الآن تلامس 25%. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه الحصّة لا تزال أعلى بنحو خمسة أضعاف من تلك التي يمتلكها أفقر 50% من السكان، والذين يملكون حالياً ما يزيد قليلاً عن 5% من إجمالي الثروة العالمية (رغم حقيقة أن عددهم يزيد عن خمسين ضعفاً من عدد أغنى 1%). والشيء المثير للاهتمام هو أن هذه الحصّة المنخفضة، كانت قد انخفضت أيضاً منذ الثمانينيات والتسعينيات، وهو اتجاه يمكن ملاحظته في الولايات المتحدة وألمانيا وبقية أوروبا، وكذلك في الهند وروسيا والصين.
أدّى الإستثمار في الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والضمان الاقتصادي والاجتماعي إلى المساواة في الوصول إليها في أوروبا خلال القرن العشرين


يمكن القول إن تركّز الملكية (وبالتالي القوّة الاقتصادية) قد انخفض بشكل واضح خلال القرن الماضي، لكنه لا يزال مرتفعاً للغاية. لقد أفاد الحدّ من اللامساواة في الملكية، بشكل رئيسي، «أصحاب الأملاك من الطبقة الوسطى»، وهم 40% من السكان، أي الذين يقعون بين أغنى 10% وأفقر 50%. لكن لم يستفد إلا قليل من النصف الأفقر من السكان. ففي النهاية، انخفضت حصّة ثروة أغنى 10% بشكل كبير، من 80-90% من الثروة إلى نحو 50-60% (وهي نسبة لا تزال كبيرة)، لكن حصة أفقر 50% لم تتوقف أبداً عن كونها ضئيلة. تحسّن وضع أفقر 50% لجهة الدخل أكثر منه لجهة الثروة، فنمت حصّتهم من إجمالي الدخل من 10% إلى نحو 20% في أوروبا رغم أن التحسن هنا محدود أيضاً وهناك احتمال لأن يتم عكس مساره. فعلى سبيل المثال انخفضت حصّة أفقر 50% من الدخل إلى ما يزيد قليلاً عن 10% في الولايات المتحدة منذ الثمانينيات حتى اليوم. لكن في نهاية الأمر، لا يزال أفقر 50% من سكان العالم هم أفقر 50% من سكان العالم.

الدولة الاجتماعية كوسيلة للمساواة في الحقوق
كيف يمكننا تفسير هذه التطورات المعقّدة والمتناقضة، وخصوصاً كيف يمكننا تفسير الانخفاض في اللامساواة الذي لوحظ خلال القرن الماضي، ولا سيما في أوروبا؟ بالإضافة إلى تدمير الأصول الخاصة نتيجة الحربين العالميتين، يجب تأكيد الدور الإيجابي الذي لعبته التغييرات الكبيرة في الأنظمة القانونية والاجتماعية والضريبية التي أُدخلت في العديد من البلدان الأوروبية خلال القرن العشرين.
فقد كان أحد العوامل الأكثر حسماً هو ظهور دولة الرعاية بين عامَي 1910-1920، ثم بين عامَي 1980-1990. في حينه شهدنا تطور الاستثمار في التعليم والصحة ومعاشات التقاعد والعجز والتأمينات الاجتماعية (البطالة والأسرة والإسكان وما إلى ذلك). في بداية العقد الأول من القرن العشرين، بلغ إجمالي الإنفاق العام في أوروبا الغربية 10% من الدخل القومي، وكان جزء كبير منه عبارة عن إنفاق ملكي/عام متعلق بأنظمة الأمن والجيش والتوسع الاستعماري. في الثمانينيات والتسعينيات، بلغ إجمالي الإنفاق العام 40-50% من الدخل القومي (قبل أن يستقرّ عند هذا المستوى)، وكان الإنفاق، بشكل أساسي، على التعليم والصحة والمعاشات والتحويلات الاجتماعية.
أدّى هذا التطور إلى قدر معين من المساواة في الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والضمان الاقتصادي والاجتماعي في أوروبا خلال القرن العشرين. أو على الأقل أدّى إلى زيادة المساواة في الوصول إلى هذه الخدمات عما كان متاحاً للمجتمعات السابقة. ومع ذلك فإن ظاهرة دولة الرعاية شهدت ركوداً منذ الثمانينيات والتسعينيات رغم استمرار زيادة الاحتياجات المجتمعية، نتيجة إطالة متوسط العمر المتوقع وارتفاع مستويات التعليم. وفي قطاع الصحة، بشكل خاص، لاحظنا بمرارة مع الأزمة جائحة كورونا عدم كفاية المستشفى والموارد البشرية المتاحة. تتمثل إحدى القضايا الرئيسية المطروحة الآن خلال أزمة كورونا في ما إذا كان المسار نحو الدولة الاجتماعية سيستأنف في البلدان الغنية، وسيتم تسريعه في البلدان الفقيرة.
إذا أخذنا حالة الاستثمار في التعليم. في بداية القرن العشرين، كان الإنفاق العام على التعليم على جميع المستويات أقل من 0.5% من الدخل القومي في أوروبا الغربية (وأعلى قليلاً في الولايات المتحدة، التي كانت في ذلك الوقت متقدمة على أوروبا). عملياً، كان هذا يعني أنظمة تعليم نخبوية للغاية ومقيّدة: كان على جمهور السكان الاكتفاء بالمدارس الابتدائية المزدحمة والضعيفة التمويل، ولم يكن هناك سوى أقليّة صغيرة لديها إمكانية الوصول إلى التعليم الثانوي والعالي. زاد الاستثمار في التعليم أكثر من عشرة أضعاف خلال القرن العشرين، إذ وصل إلى 5-6% من الدخل القومي في الثمانينيات والتسعينيات ما سمح بمستوى عالٍ جداً من التوسع التعليمي. تشير جميع الأدلة المتاحة إلى أن هذا التطور كان عاملاً قوياً في الدفع إلى المزيد من المساواة والازدهار خلال القرن الماضي.
على العكس من ذلك، تشير جميع الأدلة إلى أن الركود في إجمالي الاستثمار التعليمي الذي لوحظ في العقود الأخيرة، رغم الزيادة الحادة في نسبة الفئة العمرية التي تنتقل إلى التعليم العالي، قد ساهم في زيادة اللامساواة والتباطؤ في معدل نمو متوسط ​​الدخل. وتجدر الإشارة إلى أن التفاوتات الاجتماعية المرتفعة في ما يتعلق بالحصول على التعليم لا تزال قائمة. من الواضح أن هذا هو الحال في الولايات المتحدة، حيث يحدد مستوى دخل الوالدين احتمال الوصول إلى التعليم العالي (وهو بمعظمه تعليم ويتطلب تكاليفَ وأقساطاً). ولكن هذا هو الحال أيضاً في بلد مثل فرنسا، حيث يتم توزيع إجمالي الاستثمار العام في التعليم، على جميع المستويات، بشكل غير متساوٍ ضمن الفئات العمرية، ولا سيما في ضوء التفاوت الهائل بين الموارد المخصّصة لمسارات التعليم الانتقائية وغير الانتقائية. بشكل عام، ارتفع عدد الطلاب في فرنسا بشكل حادّ منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين (بما يزيد قليلاً عن 2 مليون إلى ما يقرب من 3 ملايين حالياً)، لكنّ الاستثمار العام لم يأخذ نفس الاتجاه، خاصة في البرامج الجامعية العامة والقصيرة الدورات الفنية، بحيث انخفض الاستثمار لكل طالب بشكل حادّ، ما يمثل هدراً اجتماعياً وبشرياً كبيراً.

* اقتصادي فرنسي ورئيس قسم الاقتصاد في مدرسة باريس للاقتصاد، وأستاذ في الاقتصاد في المعهد الدولي للامساواة في كلية لندن للاقتصاد. من مؤلفاته: «اقتصاد اللامساواة»، و«لماذا ننقذ المصرفيين؟»