التعبير الدقيق عما يجري في سوريا ، منذ 2011، هو «الحرب على سوريا»، لا «الأزمة السورية»؛ فالأزمة تنصرف إلى الداخل، بينما أصبح، واضحا، بصورة لا تقبل الشك، أن سوريا، الدولة والقدرات والمجتمع، تشهد عدوانا خارجيا شنّه تحالف مكون من الامبريالية الغربية والرجعية العربية والعثمانية على هذا البلد، لتحقيق أهداف جيوسياسية، لا علاقة لها بالداخل السوري.
ومن السمات الخاصة بهذه الحرب الطويلة القاسية، تجنّب مشاركة الجيوش، والاستخدام الموسّع للجماعات المسلحة. وهو خيار ذو فوائد جمة؛ فبدلا من الغزو النظامي الصريح الذي يستولد الإجماع الوطني على المقاومة، ويستنزف القدرات العسكرية للغزاة، ويضع حدودا لنطاق الحرب ومداها الزمني، فإن استخدام المسلحين، يستولد الانقسام الداخلي، ويعطي الانطباع بأن الحرب السورية هي نتاج أزمة محلية، ويُظهر الدول الغازية بأنها تؤيد «ثوارا» لهم قضية، وأخيرا، فإنه يطيل أمد الحرب وإضرارها بالمجتمع وتدمير بنى البلد واقتصاده وقدراته.
منذ بداية الحرب، تبين للغزاة أنه ما من امكانات لتجنيد مسلحين سوريين غير متدينين، بعدد كاف لشن الحرب، من دون استنهاض الإخوان المسلمين السوريين والتحريض الطائفي والمذهبي؛ فالمال، وحده، لا يكفي لتجنيد مقاتلين مخلصين لسادتهم، لكن، مع استمرار الحرب، ظهرت الحاجة الماسة لمشاركة الجماعات التكفيرية الإرهابية، كالسلفية المقاتلة والقاعدة ــ النصرة وداعش وأحرار الشام الخ. وقد ادى التجمّع الاستخباري الدولي ــ الإقليمي، المعادي لسوريا، دورا ديناميكيا في تجميع وتنظيم وتسليح وتمويل الإرهابيين من أكثر من 80 دولة حول العالم، وزجّهم في الحرب على سوريا. وقد خلقت هذه العملية، موضوعيا، آلياتها الخاصة بها؛ إذ تحوّلت المليشيات المحاربة في سوريا، كليا، إلى الخضوع للأيديولوجيا الأصولية التكفيرية الإرهابية، أو ما يمكننا وصفه، باختصار، بـ»الفاشية الإسلامية».
ومستذكرا العلاقات الداخلية في دولة الرسول في المدينة، يُقارب الزميل صهيب عنجريني، مسألة بالغة الأهمية؛ فيحلّل حجم وفعالية كل من «الأنصار» (السوريين) و»المهاجرين» (الأجانب) في «الربيع الجهادي السوري»؛ إلا أنه لا يتوصّل إلى استنتاجات.
في رأيي أن العامل الأهم في تكوين «الأنصار»؛ الحاضنة الاجتماعية السياسية القتالية للإرهاب التكفيري، يظل عاملا داخليا. وهنا، يمكننا أن نتحدث عن أزمة سورية بالفعل، هي أزمة الهوية الأيديولوجية للدولة؛ ففي العقدين الأخيرين من تاريخ سوريا، اتجه الصراع بين الدولة القومية المدنية والقوى الاجتماعية الرجعية والمحافظة، إلى التساكن وتقديم التنازلات؛ فشهدنا موجة بناء المساجد وانتشار دور النشر الدينية والكف عن نقد الدين واشراك رجال الدين في الدعاية السياسية والتراجع عن المنحى المدني في قانون الأحوال الشخصية، إضافة إلى الزج بمؤشرات دينية في النصوص الدستورية ومصادر التشريع الخ؛ علينا ألا ننسى، بالطبع، أن شرعية الحكم في سوريا، بغض النظر عن المواقف منها، تستند إلى الأيديولوجية البعثية، القومية العلمانية. وللتذكير، فإن البعثيين والسوريين القوميين، كانوا ــ لأسباب لا مكان هنا لشرحها ــ أكثر تصلبا في الدفاع عن قضية العلمانية الراديكالية من الشيوعيين الذين ركزوا على الجوانب الاجتماعية بالدرجة الأولى.
العامل الثاني في تكوين «الأنصار» السوريين هو ما تعرضت له مناطق ريفية وبدوية في سوريا من تهميش سياسي واقتصادي وثقافي؛ دفع بها إلى أحضان الدين.
العامل الثالث هو الأخطر؛ فالاستراتيجية للقتال خارج الأسوار، دفعت بدمشق للتعاون والتحالف مع منظمات اسلامية؛ إحداها، حزب الله، تطوّر إلى حركة وطنية تحررية، لكن، بالمقابل، تورّطت دمشق، مدفوعة بهاجس المقاومة، في دعم منظمة اخونجية هي حماس. وقد أدت هذه دورا فاعلا في تكوين الأنصار السوريين والفلسطينيين ــ السوريين؛ وأخيرا، كان دعم السلفية المقاتلة، لمواجهة الاحتلال الأميركي في العراق، مدخلا لتوطين الفكر السلفي التكفيري الإرهابي في سوريا.
يشير عنجريني، من دون توثيق، إلى نسب الأنصار والمهاجرين في الجهادية السورية؛ لكن، بغض النظر عن المعطيات الرقمية، فإنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن المهم هو القرار الأيديولوجي والسياسي والأمني، للتنظيمات الجهادية ــ الفاشية؛ فمن الواضح أن الهيمنة الأيديولوجية تعود إلى المهاجرين الأجانب، لا إلى الأنصار السوريين. وعلى الرغم من وجود خلافات سياسية وتنظيمية ونزاع على المكاسب بين تلك التنظيمات، فإن مرجعيتها الفكرية تنتمي إلى الفضاء الأصولي التكفيري نفسه. وأخيرا، علينا ألا ننسى أن هذه التنظيمات مدينة، في وجودها وتمويلها وتغطيتها وتوسّعها، إلى الدعم الاستخباري والسياسي والمالي الخارجي؛ فهي، في النهاية، ظاهرة مصنّعة. وإذا كان بعضها، مثل داعش مثلا، قد استقلّ عن داعميه؛ فإن الغطاء السياسي العام الممنوح للجهاد في سوريا، يظل يمنح الدواعش، فرصة التجنيد، مثلما يمنح تنظيم القاعدة، فرصة استيعاب التنظيمات السلفية الأصغر.
هناك شرطان للقضاء على الإرهاب في سوريا؛ شرط خارجي يكمن في التسوية الدولية والإقليمية للحرب، وشرط داخلي يتمثل بالرجوع إلى الخطاب القومي العلماني.