في كانون الثاني 2008، أعلن وزير الدفاع الياس المر تحقيق «إنجاز نوعي» على صعيد تسليح الجيش اللبناني، إذ إنه حصل على هبة روسية، أساسها 10 طائرات مقاتلة من طراز ميغ–29. احتفلت البلاد بالنبأ. وكل من شكك في جديته رُمي باتهامات راوحت بين العداء لبناء الدولة، وتغليب منطق الميليشيات على منطق المؤسسات. لكن عرض الميغ الروسي تلاشى مع مرور الأيام، بذريعة أن لبنان لا يقدر على تلبية المتطلبات المالية لتشغيل هذه الطائرات وصيانتها.
لكن البرقيات الصادرة عن السفارة الأميركية في بيروت تُظهِر أن من «سهر الليالي» لإبطال تلك الصفقة لم يكن سوى حكومة الولايات المتحدة الأميركية. فبعد أقل من أسبوع على إعلان العرض الروسي، كتبت السفيرة الأميركية في بيروت في إحدى برقياتها العبارة الآتية: «سنستمر بالعمل خلف الكواليس لضمان أن تقويم الجيش البناني سيخلص إلى أنه لا يحتاج إلى طائرات الميغ–29، كما أنه لا يستطيع تحمل تكاليف الصيانة، ما يمنح الحكومة اللبنانية سبيلاً مشرّفاً لرفض العرض الروسي».
الحرص الأميركي على منع وصول المقاتلات الروسية إلى لبنان ظهر في التحرك السريع للسفيرة الأميركية في بيروت، ولنائب مساعد وزيرة الخارجية الاميركية دايفيد هيل الذي جال على المسؤولين اللبنانيين محذراً إياهم من قبول العرض الروسي. يوم 22 كانون الأول 2008 (08BEIRUT1780)، زارت السفيرة الأميركية في بيروت الوزير المر. اجتهد الأخير لتبرير قبوله عرضَ موسكو. يقول إنه خلال اجتماعه بنظيره الروسي يوم 16 كانون الأول (2008)، أعطاه الأخير وثيقة باللغة العربية من 6 صفحات، كتب فيها تفاصيل «هدية» روسيا إلى الجيش اللبناني، المتضمنة 77 دبابة T-72 ومدافع هاون 130 ملم، و50 ألف قذيفة لكل من الدبابات والمدافع. يكمل المر روايته أمام سيسون قائلاً إنه أعاد الاوراق إلى نظيره الروسي مع الشكر، قائلاً إن الجيش اللبناني لم يعد بحاجة لما هو معروض. وبحسب المر، فإن وزير الدفاع الروسي غضب من رده، سائلاً: ما هي حاجاتكم؟. أجاب المر بما رأى «أنه الأكثر بعداً عن الواقع بهدف حفظ ماء الوجه»: طائرات ميغ مقاتلة. بعد 25 دقيقة، رد وزير الدفاع الروسي قائلاً إن روسيا ستمنح لبنان 10 طائرات ميغ–29، مجاناً. رد المر بالشكر، مشيراً إلى أنه بحاجة إلى موافقة مجلس الوزراء على الاتفاق.
يبرّر المر ردة فعله للسفيرة الأميركية قائلاً إنه «لم يكن لديه خيار سوى قبول العرض، لأنه إذا رفض عرضَي الدبابات والطائرات، فسيتعرّض لاتهام «بأنه خائن للبنان ومرتهن للولايات المتحدة»». أضاف أن العرض الروسي يمكن استخدامه «كورقة ضد حزب الله». ويدخل المر الطائرات النفاثة في صناديق الاقتراع اللبنانية، قائلاً إن إعلان الحصول على الميغ من الروس قد يكون بشارة جيدة للأكثرية في طريقها إلى الانتخابات النيابية ربيع عام 2009. وبرأيه، فإن «طائرات الميغ هي أفضل وسيلة لمضاجعة حزب الله (to f*** up Hizballah)، حتى من دون الحصول عليها، على طاولة الحوار الوطني».
السفيرة الأميركية كانت واضحة في رفضها لصفقة الميغ. قالت إن «اتفاق موسكو أثار أسئلة عديدة في واشنطن». فبينما تؤكد التصريحات العلنية الأميركية الدعم الدولي للبنان وجيشه، «فإن إعلان التوجه إلى امتلاك طائرات ميغ–29 كان بلا معنى، نظراً لأن جهود مكافحة الإرهاب مركزة على المخيمات الفلسطينية». وفيما كانت الطبقة السياسية اللبنانية تتغنى بمنحة الميغ، أكد المر للسفيرة الأميركية أنه سيتخذ الإجراءات التي تؤدي إلى استنتاج أن العرض الروسي ليس ذا جدوى للبنان، من الناحية المالية. وحاجج بأن لديه الكثير من الأسباب التي تدفعه إلى التأجيل، مضيفاً أنه حتى تعليمات الاستخدام والتجهيزات مكتوبة باللغة الروسية. وختم المر قائلاً: «كوني على ثقة، لن أتخذ قراراً قبل نهاية 2009، سأميّع الأمر».
بدوره، رئيس الحكومة سعد الحريري، في لقائه مع نائب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، دايفيد هيل، يوم 17 كانون الأول 2008 (08BEIRUT1783) وضع «صفقة» الميغ في سياق داخلي أيضاً: قال إن الحصول على الميغ سيكون «جيداً لقوى 14 آذار». فبرأيه، لن يكون حزب الله قادراً بوجود الميغ على تكرار 7 أيّار، إضافة إلى أن وجود الميغ «ربما يعقد الطلعات الجوية الإسرائيلية في الجنوب، ومن المحتم أن يؤدي إلى إضعاف أحد مبرّرات سلاحه». وأكد الحريري أن حزب الله شعر بالتهديد من صفقة الميغ، وأن قناة المنار التابعة للحزب تعاملت معها بسلبية. وضعت السفيرة سيسون ملاحظة في برقيتها مفادها أن السفارة لم تلاحظ وجود رد فعل سلبي من حزب الله على الصفقة، مشيرة إلى أن «أحد ممثلي حزب الله أكد في بيان رسمي دعم تسليح الجيش اللبناني من أي جهة كانت لمواجهة إسرائيل».
أضاف الحريري بعداً آخر للصفقة، وهو «محاربة الإرهاب في المخيّمات الفلسطينية». الأميركيون واضحون في البرقية المذكورة. ففي التعليق الذي كتبته سيسون وصدّق عليه هيل، أكدت السفيرة الأميركية أنها عارضت «بوضوح» حصول لبنان على طائرات ميغ–29 من روسيا، في الجلسات المغلقة مع السياسيين البنانيين. وأكدت جازمةً الآتي: «سنستمر بالعمل خلف الكواليس لضمان أن تقويم الجيش اللبناني سيخلص إلى أنه لا يحتاج إلى طائرات الميغ–29، كما أنه لا يستطيع تحمل تكاليف الصيانة، ما يمنح الحكومة اللبنانية سبيلاً مشرّفاً لرفض العرض الروسي».
في اليوم التالي (18 كانون الأول)، التقى هيل رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، ووزير المال محمد شطح، كلاً على حدة (وثيقتان تنشرهما «الأخبار» لاحقاً). السنيورة، تعليقاً على الهواجس الإسرائيلية بشأن امتلاك لبنان لمقاتلات الميغ، أكد للدبلوماسي الأميركي أن «10 طائرات ليست تهديداً جدياً»، جازماً بأن هذه المقاتلات «لن تستخدم ضد المخيمات الفلسطينية. أسلحة الجيش اللبناني ليست غايتها المواجهة. قيمة هذه العصا تكمن في عدم الاضطرار إلى استخدامها». السنيورة قال إن مجلس الوزراء «سينتظر ليرى التفاصيل»، مشيراً إلى أن الإعلان عن صفقة الميغ «كان جيداً لمعنويات الجيش اللبناني، وجيداً للدولة، وجعل حزب الله وسوريا غير مرتاحين». وفي تعليقها، قالت السفيرة ميشال سيسون إن نبرة السنيورة أوضحت لها أنه يشاطرها الرأي بشأن الشك في حكمة صفقة الميغ. مراهنة على كون السنيورة وزير مال سابقاً «بخيلاً»، فإنه سيقلق من المبالغ التي سيرتبها وجود الميغ على موازنة الجيش اللبناني. وبناءً على ذلك، توقعت سيسون أن ينتظر السنيورة الوقت المناسب لكي يرفض العرض الروسي.
دايفيد هيل أكمل جولته على السياسيين اللبنانيين، فزار قائد القوات اللبنانية سمير جعجع يوم 19 كانون الأول (08BEIRUT1799)، ليثير التحفظ الأميركي بشأن العرض الروسي. وكما في حضرة السياسيين الآخرين، قال هيل لجعجع إن حصول الجيش اللبناني على المقاتلات الروسية «ربما سيصعّب الجهود الأميركية الرامية إلى بناء دعم للجيش اللبناني داخل الكونغرس ومع الإسرائيليين». رد جعجع بالقول: إن الجيش اللبناني هو ذو عقيدة غربية. فهل تظن أن قبول هذه الطائرات سيحوّله إلى ذي عقيدة روسية؟» كان جعجع يعتقد أن الولايات المتحدة المحرجة مع الإسرائيليين تحدثت مع السعوديين الذين طلبوا بدورهم من الروس تزويد الجيش اللبناني بما لا تسطيع الولايات المتحدة تقديمه. لكن كلام هيل كان واضحاً لناحية معارضة بلاده وإسرائيل حصول لبنان على الطائرات. لكن جعجع طمأن هيل قائلاً إن الجيش اللبناني «بحاجة لمئات طائرات الميغ، ولطائرات الإنذار المبكر، إضافة إلى عقد (10 سنوات) من التدريب، لكي يهدّد إسرائيل».
النائب وليد جنبلاط كان الأكثر وضوحاً: «لسنا بحاجة إلى طائرات الميغ». الوضوح ذاته ظهر في كلام قائد الجيش العماد جان قهوجي، لكن في موقف مناقض لموقف جنبلاط. فقهوجي رفض حجج هيل، قائلاً ببساطة إن الجيش اللبناني بحاجة لطائرات نفاثة ( 08BEIRUT1803).
بعد نحو شهرين من جولة هيل، التقت السفيرة الأميركية ميشيل سيسون وزير الدفاع الياس المر مجدداً، يوم 26 شباط 2009 (09BEIRUT235). اشتكى المر من إلحاح السفير الروسي عليه لإرسال فريق من الجيش اللبناني إلى روسيا للتدرب على طائرات الميغ، مؤكداً أنه يرجئ رده على الطلب الروسي. أضاف المر أنه يريد للعرض الروسي أن «يختفي». شهران إضافيان (09BEIRUT400)، 6 نيسان 2009) كانا كافيين ليجزم المر لسيسون بأن لبنان لن يقبل طائرات ميغ–29 قريباً، «ليس قبل عام 2040».
الجانب الروسي كان لا يزال مصراً على عرضه. فيوم 27 نيسان 2009 (09BEIRUT496)، صدر القرار الروسي النهائي بتزويد لبنان بالطائرات. لكن وزير الدفاع اللبناني أبلغ سيسون أنه لا يزال يعمل لإسقاط العرض الروسي، قائلاً إنه طلب من رئيس الحكومة سعد الحريري التزام الهدوء ريثما يستطيع تأمين طائرات من مصدر آخر. وعلى هذا الأساس، يصبح مفهوماً سبب عدول الرئيس سعد الحريري عن موقفه المؤيّد لحصول لبنان على الطائرات الروسية. ففي نهاية حزيران 2009، استقبل الحريري قائد المنطقة الوسطى الأميركية الجنرال دايفيد بترايوس. وقال الحريري لضيفه إن لبنان لا يستطيع تحمّل نفقات طائرات الميغ، وإنه سيستبدلها بطائرات مروحية. على هذا المنوال انتهت قصة الميغ غير السعيدة. وما هو غير معروف حتى اليوم سبب تجميد عرض استبدال طائرات الميغ بمروحيات روسية متطوّرة. ولاختفاء تلك المروحيات قصة أخرى، موعد روايتها قريب.
سيسون تروي: كيف عطلت و14 آذار صـفقة الميغ الروسية؟
من ملف :
المال والسلاح