يحلو للإيرانيين هذه الأيام أن يرووا على طريقة الوقائع الثابتة، لا كلام الشماتة، كيف أنّ نائب وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، وليم بيرنز، توسّط لدى المسؤولة الأوروبية كاترين آشتون تسع مرات متتالية، كي ترتّب له موعداً مباشراً مع كبير المفاوضين الإيرانيين سعيد جليلي، على هامش محادثات مجموعة الدول الست في جنيف في 10 كانون الأول الماضي. ويروون كيف أنه انتظر المسعى الأخير نصف ساعة في رواق قريب من مكان اللقاء المنشود، فيما كان المتحدث الأميركي روبرت وود يبادر إلى تأكيد اللقاء، «الأعلى مستوى بين واشنطن وطهران منذ 30 عاماً»، وفيما رئيسه باراك أوباما يسارع إلى الترحيب. وما يكتمه الإيرانيّون من تفاصيل تسيل به المواقع الإخبارية والمعلومات المتسرّبة عن كيفية «فرض» مكان اللقاء التالي في طهران بعد إسطنبول، وعن بوادر حسن نيّة بين الطرفين في أفغانستان، حيث تتقاطع المصالح في حرب واشنطن المنسيّة هناك، بعد حربها المطويّة في العراق، بفضل تقاطع مماثل، أو تحالف موضوعي، أو انكسار بعد انتصار... لا فرق.للرواية أبعادها طبعاً، في السياسة الآنيّة ومؤشرات موازين القوى، لكنّ الأهم فيها أنها تلقي الضوء على المسار الأميركي طيلة عقد مضى. عقد بدأ مع أحداث 11 أيلول، وتكوين «محور الشر» في السياسة الأميركية وقاموسها وأدبياتها. يومها ـــــ وقد بات ثابتاً الأمر اليوم مع صدور المذكرات والتسريبات ـــــ انطلق مخطط واشنطن لمحاصرة إيران، من صوب كابول ومن جهة بغداد، ولم يجد أفضل من عنوان «نشر الديموقراطية» خطاباً أيديولوجياً للتبرير والتسويغ والتسويق.
مضت الأيام سريعاً قبل أن يعلن صقور المحافظين الجدد سقوط المشروع، وهزيمة المغامرة. في خريف 2006، ولمناسبة مرور خمسة أعوام على إبحار السفينة، سارعوا جميعاً إلى القفز منها، وراحوا يتبارزون في التنصّل، إلا أن أكثر ما قالوه دمغاً للتاريخ قول كينيث أدلمان يومها إن «فكرة السياسة الخارجية القوية لواشنطن، لمصلحة الأخلاق، فكرة استعمال قوتنا للخير الأخلاقي في العالم، قد ماتت لجيل على الأقل. بعد العراق لن تعود صالحة للبيع»، مضيفاً إنّ أفكار المحافظين الجدد عن نشر الديموقراطية في العالم صحيحة، لكن يجب حفظها في درج مقفل تحت عنوان «لا يمكن ذلك».
هكذا أقنعت واشنطن نفسها قبل خمسة أعوام، قبل أن تحاول إقناع العالم، بأن الديموقراطية سلعة حصرية الوكالة والمنشأ والتسويق، فإمّا أن تبيعها هي، وإمّا أن تُسحب من السوق، ثم أقنعت واشنطن نفسها وحاولت إقناع العالم بأن فشل تسويقها للديموقراطية يفرض على منطقتنا وشعوبنا أن تستنقع مجدداً في أنظمة البؤس، وأن تقبل التجميل الأميركي لهذه الأنظمة، باسم «الاستقرار» أو «الازدهار» أو «الاعتدال»، أو «مواجهة الإرهاب».
خمسة أعوام فقط كانت كافية لإثبات خطأ واشنطن مرةً أخرى. خمسة أعوام غيّرت مشهد المنطقة، وغيّرتها على صعيدين أساسيين واستراتيجيين. أولاً، ظهور تلك المفارقة بين الأنظمة الأميركية الهرمة والمنخورة والشائخة حتى التكلّس، في مقابل الأنظمة الممانعة لواشنطن، وقد اكتسبت قيادات شابة وجدّدت بناها وضخّت ما يكفيها لتقطيع المراحل الانتقالية.
ليس تفصيلاً أن تكون الأنظمة الموالية لواشنطن وأخواتها، من القاهرة وتونس، حتى الرياض، أنظمة تعاني مآزق في شرعية سلطاتها الثمانينية من العمر، وتعاني كوارث في سبل استمرارها واستقرارها، فيما طهران ودمشق وغزّة وضاحية بيروت الجنوبية، «دول» شابة تقبض على مستقبلها باطمئنان وثقة لأنفسها وأنفس ناسها.
غير أن المستوى الأساسي والاستراتيجي الآخر الذي بدأت بوادره تلوح، والذي يعدّ الأهم والأثمن بالنسبة إلى هذه المنطقة وشعوبها، هو الدرس المكتوب في هذه الأثناء في تونس. هناك يكتب الآن، بالدم والعرق وآثار السياط ولحظات الرصاص والنار، أنّ كل تنظير المحافظين الجدد كان خاطئاً، وأن الديموقراطية يمكن أن تولد من دون أساطيل، ومن دون تصدير لها بالرايات المرقّطة وبسمات جاي غارنر أو بترايوس.
ويكتب الآن، أن الديموقراطية ثانياً، يمكن أن تنبثق من أنظمة «الاستقرار العسكري»، من دون أن تقع في فخ الراديكالية الإسلامية، ومن دون أن تسقط في خيار «الصوت الواحد لرجل واحد... لمرة واحدة».
ويكتب الآن ثالثاً، أن أميركا لم تفشل في نشر الديموقراطية عندنا وحسب، بل أيضاً أقامت أنظمة تحول دون قيامها ويناعها.
قبل عقد، لحظة مأساة 11 أيلول، رفعت إحدى الصحف الفرنسية عنوانها الشهير: «كلّنا أميركيون»... بعد عشر سنوات، من أجل أوروبا وأميركا ومن أجلنا نحن، من أجل الدرس ـــــ الصفعة من أرض أليسار، يصلح أن نعنون: كلنا تونسيّون.
10 تعليق
التعليقات
-
خلص؟ قسمتوه؟" فيما طهران ودمشق وغزّة وضاحية بيروت الجنوبية، «دول» شابة ... صارت الضاحية دولة؟ مبروك إذن..
-
سيد جان فقط كونوا لبنانيون و سيد جان فقط كونوا لبنانيون و حاربوا الفساد عندكم فليحارب كل شخص الكذب في داخله و المكر و الخداع عندها فقط ينظف أعلى الهرم
-
حياة محمد بو عزيزي ذات معنىهنيئا لمحمد بو عزبزي المنتحر خلافا لكل التوجيهات السماوية، انهائه الطوعي لحياته كان ذو مغزى وعبرة ، خلافا لحيوات ملايبن المجترات العربية وانا منهم .
-
أنا أحب كثيراً الرئيس الدكتورأنا أحب كثيراً الرئيس الدكتور بشّار الأسد لكن سأقدّم له نضيحة محب وهي: المطلوب منكم يا سيادة الرئيس أن تصدروا فوراً مرسوماً بإقالة هذه الوزارة التي أصبحت عفنة فاسدة لدرجة أصبح الشعب السوري لايطيق ذكر اسم رئيس مجلس وزرائه محمد ناجي العطري !!!! هل يعقل هكذا شخص أن يستمر في السلطة لأكثر من عشرة سنوات متواصلة ؟ وهل يعقل بأن سورية لا يوجد فيها شخصية أخرى تستطيع أن تدير الحكومة السوريةإلا السيد عطري مع العلم عدد سكان سورية أكفر من 21 مليون نسمة!!!!؟وهل يعقل بأنه لايوجد في سورية غير هؤلاء الوزراء الموجودين في السلطة منذ مجئ العطري؟ لقد أصبحت روائحهم منتشرة(الفساد) في كلّ مكان؟ وأنا واثق تماما بأن جزء منهم ملّ الجلوس على كرسيه فأرجو من سيادتكم أن ترحموا هذا الشعب من هؤلاءالوزراء الذي لفظهم التاريخ منذ زمن طويل!!!!!
-
لا يا سيدى الشعب قال كلمتهلا يا سيدى الشعب قال كلمته أنك لا تعرف ما يحدث فى الميدان تحياتى أليك أخ كلنا تونسيون....ولكن
-
كلنا تونسيون.... ولكنكلنا تونسيون.... ولكن في العمل: أثبتت شابات وشباب تونس أنهم ثوار وأحرار وقادرون على بذل التضحيات وكسر حاجز الخوف وبدؤا سرد قصتهم بشهيد... في الوعي: هاهي رموز النظام تستجمع قواها مستندة إلى دستور خطته أيديها الآثمة لتعيد تشكيل الواقع القديم ببعض الوجوه الجديدة وأكثر الوجوه القديمة... رحل العجوز المتصابي ومزينة الشعر.. وبقي كل إرثهم... لكن بأيدي غيرهم... أثبت التونسيون شجاعتهم وحرصهم على وطنهم، لكن حتى الآن لم يثبتوا شيئا غير ذلك، فلا مشروع مواجهة واضح، ولا قيادة معارضة منظمة قادرة على استبدال المنظومة الحالية بغيرها... يجلس بن علي الآن في فندق في الرياض بيده الريموت كونترول ليقول كما قال سعد الحريري يوم أسقط عقد سوكلين: فلتغرقو في الزبالة... رغم كل ذلك... نعم كلنا تونسيون
-
الثورة العلمانية هي الحلكلنا تونسيين و كلنا ثوّرا ضد الانظمة القمعية القومية او الاسلامية. كما ثار الشعب الايراني ضد نظامه القمعي قبل عام، ثار اليوم الشعب التونسي. و غدا ستثور كل الشعوب العربية من سوريا الى مصر و كل الاقطار العربية. النقطة السوداء الوحيدة هي ان لبنان و كل الدول الطائفية و الدينية لا تستطيع ان تقوم بثورة، لان الشعب مقسوم طائفيا. مثلا، هل اللبنانيين مستعدين ان يطردوا زعماء الفساد و القمع و الذين يتبعون 8 و 14 اذار؟ او ان اللبناني يريد طرد زعماء الطوائف الاخرى و ليس زعيم طائفته الذي يقدسه؟!
-
عبرة لمن يراهن على الغربأهنئكَ على هذا المقال المُعَبِر عن فهم وإدراك حقيقي لقدرة شعوب المنطقة على فرض رؤيتها وطريقها بالرغم من كل الدعم لهذة ألأنظمة المستبدة
-
غزة ليست دولةأود تذكير الأستاذ جان بأن غزة ليست دولة، قد تكون نظاما إسلاميا مقيتا قمعيا في ظل حماس، لكنها ليست دولة. عندما تصبح غزة دولة تماما فإن مشروع الدولة الفلسطينية الحقيقي الذي ينشده كل فلسطيني حر يكون قد سقط إلى الأبد. إن النظام الإسلامي الحمساوي الذي يقمع الحريات والمقاومة - تحول عناصر حماس لشرطة لحماية إسرائل كما شرطة عباس لا فرق- لا يمكن أن يكون نظام ممانعة ومقاومة، فمشروع الفصل الذي ينفذه بغزة هو إحدى أفضل الخدمات التي قدمت لإسرائيل خلال العقدين الماضيين. آمل من جريدة الأخبار التي نحبها مراجعة مقاربتها بشأن ملف غزة، وتقديم مقاربة جديدة تأخذ بعين الاعتبار أن حماس هي فتح ولكن بدشداشة وذقن وأيدي متوضئة.
-
بن علي ضيف خادم الحرمينالقوانين التونسية لايمكن ان تبتلع من قبل الفكر الوهابي المؤيد والمنظر للاسرة الوهابية (الحاكمة والمهيمنة على مهد الاسلام)، ومع ذلك فقد استقبلت "بحفاوة" بن علي المخلوع والمغضوب من شعبه . هل للبسطار الامريكي دور في ذلك ، ام شهامة بدوية .