المدير العام الأسبق في وزارة المهجّرين هشام ن. «متوارٍ عن الأنظار منذ أكثر من 4 أعوام». بهذه «الحجّة» ذيّل القرار الظني الصادر بحقه عن قاضي التحقيق الأول في بيروت عام 2005. الرجل الذي تولى منصبه بين 1992 و1999، متهم بـ«نهب» المال العام. وهو، على «ذمّة» القضاء، «شبح» بلا عنوان منذ إحالة قضيته على القضاء قبل أكثر من 11 عاماً. لكن، على ذمتنا وذمة كثيرين، يمكن لقاؤه دائماً في محطة الوقود التي يملكها في ديرقوبل قرب الشويفات، أو في المختارة، إلى جانب النائب وليد جنبلاط.
لماذا لم توقفه الأجهزة الأمنية سابقاً، ولماذا لا توقفه، الآن، بعد صدور قرار اتهامي بحقه قبل نحو شهر، طُلب فيه مجدداً سوقه إلى محكمة الجنايات في بيروت؟ مسؤول أمني يضحك عند توجيه السؤال: «أنت تمزح... متأكد أنك تقصد هشام ن. المحسوب على جنبلاط؟ تريدني أن أوقفه؟».
في بلد الغرائب لن يبدو السؤال غريباً؛ إذ إن هشام ن. يوصف بـ«الذراع الأمنية» للحزب التقدمي الاشتراكي، إبان الحرب الأهلية، وهو لا يزال حزبياً، وفق ما يؤكد أحد كبار المسؤولين في الحزب.
القرار الصادر عن الهيئة الاتهامية في بيروت، أخيراً، موجّه إلى المدير العام الأسبق وبعض شركائه. لكنه، في السياسة، اتهام لـ«الحالة الجنبلاطية» وغيرها من الحالات الحزبية التي تغلغلت في مؤسسات الدولة بعد انتهاء الحرب.

اختلاس وتزوير واستثمار

بدأت القضية قبل نحو 13 عاماً، عندما طلب رئيس الحكومة سليم الحص من التفتيش المركزي التحقيق في مخالفات منسوبة إلى موظفين في وزارة المهجرين. وبيّنت التحقيقات أن المدير العام ارتكب جرائم عدّة، أبرزها تسلمه، بصفته رئيس لجنة الاستلام، تجهيزات عائدة للوزارة، فيما تخلو السجلات «من أيّة قيود تشير إلى تسلم تلك التجهيزات أو وجودها». كذلك وافق المتهم على تأمين سيّارة لرئيس دائرة المحاسبة نبهان أ. على حساب الوزارة من دون وجه حق، إضافة إلى مخالفات مالية مختلفة. وتبيّن أن نبهان أ. ارتكب بدوره «جرائم» مالية، منها: دفع أموال لغير أصحابها، تأمين سيارته الخاصة على حساب الوزارة من دون وجه حق، وتوقيعه، بصفته عضواً في لجنة الاستلام، على محضر تسلّم التجهيزات المذكورة، من دون التثبت من تسلمها فعلياً، وكل ذلك بموافقة المدير العام.
وفي بعض تفاصيل تلك المخالفات، اشترك المتهمان في صرف مبلغ 1250 دولاراً على حساب الوزارة، كبدل تأمين لسيارة نبهان، التي حصل عليها أصلاً من أموال الوزارة «من دون وجه حق». وبحسب ما جاء في القرار الاتهامي، فإن ما كان المتهمان يقومان به «رتّب أعباء على الخزينة، بدليل حجم المحروقات التي كان هشام ن. يوقع فواتيرها، والتي كانت تتجاوز قيمتها 1000 ليتر بنزين شهرياً، فيما كان بإمكان نبهان استعمال إحدى سيارات الوزارة الـ 38، وبالتالي كان المتهمان ينتفعان من المال العام دون وجه حق، إضافة إلى إساءة المدير العام لاستعمال توقيعه بالاتفاق مع الثاني». من جهة ثانية، استحصل نبهان على فاتورتين وهميّتين، وقعهما المدير العام، لشراء التجهيزات بقيمة 47547500 ليرة. في هذه «الجريمة» اشترك هشام ونبهان، ومعهما المتهم نمر ب. بالتوقيع على مستند لإثبات واقعة غير صحيحة، وقبض قيمة الحوالة عبر «التزوير في محضر الاستلام ودسّ الفواتير في العقد الرضائي لمنع اكتشاف استيلائهم على المبلغ». ومن بين الاتهامات تنظيم المدير العام والمحاسب جدولاً وهمياً بأسماء موظفَين ادعيا قيامهما بأعمال إضافية. وثبت للهيئة الاتهامية أن المتهمين «استعانا بأشخاص للتوقيع تزويراً على الجدول لقبض الأموال، وأن المبلغ الذي قبضاه من هذه العملية تجاوز 52 مليون ليرة».
في التحقيقات، حاول نبهان التنصل من المسؤولية، مدّعياً أن التوقيعات على الجدول «كانت تحصل بأمر من المدير العام». بيد أن الهيئة رأت أن هذا الادّعاء «لا يستقيم قانوناً ولا يعفيه من المسؤولية الجزائية، علماً بأن هذه الأفعال تجاوزت مسألة مخالفة المادة 186 من قانون المحاسبة العمومية، لتكون أفعال كل من هشام ونبهان جنايات ينص عليها قانون العقوبات». ولهذا قررت الهيئة الاتهامية اتهام كل من هشام ونبهان بالجنايات المنصوص عليها في المواد 359/360 و456 و454/456 و457 و454/457 معطوفة على المادتين 350 و 257 من قانون العقوبات، إضافة إلى «إصدار مذكرة إلقاء قبض بحق كل منهما، وسوقهما إلى محل التوقيف الكائن لدى محكمة الجنايات في بيروت ليحاكما بما اتهما به». وهذه العقوبات تأتي في خانة: «الاختلاس واستثمار الوظيفة والتزوير الجنائي»، وبعضها ينص على عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة على أن لا تقل عن 7 سنوات، فيما ينص بعضها على الأشغال الشاقة المؤقتة التي تراوح بين 3 سنوات و15 سنة. واتهمت الهيئة نمر ب. بمقتضى الجنايات 359/360 و457 و457/454 وإصدار مذكرة إلقاء قبض بحقه، وتماثل مدة العقوبة المطلوبة له المدّة التي طلبت لكل من هشام ونبهان.

قرار ثانٍ


واللافت أن ثمة قراراً اتهامياً صادراً عن الهيئة الاتهامية في بيروت بحق كل من هشام ن. ونبهان أ. يشير إلى «جرائم» أخرى ارتكباها في الوزارة. وفي التفاصيل، أن نبهان، الذي كان يتولى الدائرة المالية في الوزارة، إضافة إلى كونه أميناً للصندوق، كان ينظم جداول رواتب لموظفين تركوا العمل في الوزارة (فرع الدامور)، فاستمر، بالتنسيق مع المدير العام، بإيراد أسمائهم وقبض رواتبهم لأكثر من سنتين. ومن أسماء الموظفين المغادرين، الذين كان يقبض عنهم الأموال: سلام أ. وعلي ج. ووسام د. ووسام ح. واللافت أن القرار الاتهامي لم يترك أي فرصة للمتهمين بالتملص مما نسب إليهما، إذ ورد فيه: «وعلى فرض، في مطلق الأحوال، أن نبهان كان ينظم جداول الرواتب بالاستناد إلى ما يرده من المدير العام، فإنه لا يعقل أن لا يلاحظ كل منهما عدم حضور أصحاب الأسماء، لمدة تتجاوز السنتين، بالرغم من أن جداول الحضور تثبت عدم حضورهم إلى الوزارة». في هذا القرار اتهمت الهيئة كلاً من هشام ونبهان بالجنايات المنصوص عليها في المواد 456 و457 و456/454 و457/454 و360/359 من قانون العقوبات. أما مدة هذه العقوبات فهي مثل مدة العقوبات في القرار الأول.

القضاء البطيء

كان لهذا الملف القضائي أن لا يبصر الاتهام فيه النور، فيبقى حبيس أدراج العدلية لسنوات غير معلومة، على غرار الكثير من القضايا «النائمة» هناك، لولا أن قررت الهيئة الاتهامية في بيروت، برئاسة القاضية ندى دكروب، وعضوية المستشارين شربل رزق ومايا ماجد، مسح الغبار عنه. ففي العدلية، تعاقب الكثير من القضاة خلال تلك السنوات على قضايا الفساد المالي، من دون أن يبتّوها، وأورثوا قصور العدل قضايا مكدسة تجهل وزارة العدل، ومعها مجلس القضاء الأعلى، عددها الحقيقي، في ظل عدم وجود آلية لإحصائها رسمياً حتى الآن. في هذا الإطار، يلفت مسؤول قضائي إلى أن «البطء في بت القضايا بات سمة لعمل المحاكم في لبنان، ولكن، في مطلق الأحوال، ها قد صدر قرار اتهامي في قضية فساد موصوفة، وأصبحت في عهدة محكمة الجنايات، والله أعلم كم ستبقى القضية عالقة حتى صدور الحكم النهائي فيها، هذا إن لم يطوها النسيان». وأضاف: «على فرض أنّ القضاء قرّر السير فيها حتى النهاية، ترى هل ستسمح المرجعيات السياسية للمتهمين بالمثول أمام القضاء، أم أنهم سيعيشون إلى الأبد متوارين عن الأنظار».
تزدحم صفحات الصحف بدعوات الزعامات السياسية إلى مكافحة الفساد الإداري وتبديد المال العام، إلى درجة يخال المتابع أن الذين سرقوا ويسرقون المال العام، مخلوقات جاءت من الفضاء الخارجي، علماً بأن ما من موظف في لبنان، تقريباً، إلا وهو تابع لجهة سياسية. في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى حديث للنائب جنبلاط، أدلى به لجريدة «الأنباء» الصادرة عن حزبه قبل أشهر، قال فيه: «إن الادارة الحكيمة للقطاع المصرفي في لبنان حالت دون وقوع مشاكل مالية بارزة، فعلى رغم أهمية قرار زيادة الأجور وحاجته الملحة، إلا أن هذه الخطوة يُفترض استباقها بخطوات كبيرة في الإصلاح الإداري، كي لا نندم لاحقاً. وبالمناسبة، أين هم صفوة القوم الذين يحاضرون فينا يومياً بالإصلاح ومكافحة الفساد؟».



رجل «الإدارة المدنية»

قبل أكثر من 4 سنوات، وفي ظل تناقل بعض وسائل الإعلام معلومات عن تورط «الاشتراكي» هشام ن. في بعض عمليات الاغتيال، صرّح النائب وليد جنبلاط آنذاك، قائلاً: «لو أن هشام قام بذلك، ولو كان هشام يملك هذه القدرة، لكنت منذ زمن بعيد كلّفته قلب النظام السوري؛ إذ لا مانع لدي في هذه المسألة». يُشار إلى أن هشام ن. (الذي عمل لمدة في صندوق المهجرين أيضاً) يصفه البعض بالشخصية الأمنية الأبرز في جبل لبنان، في مناطق النفوذ الجنبلاطي تحديداً، وهو كان خلال الحرب الأهلية يتولى الإدارة المدنية (نظام الحكم الذاتي أو الدويلة) في منطقة جبل لبنان، كذلك عمل خلال تلك الحقبة على تنظيم العلاقة بين الاحتلال الإسرائيلي ومناطق نفوذ الحزب الاشتراكي في الجبل. أحد «الاشتراكيين» السابقين، الذي عمل عن كثب مع هشام، يلفت إلى أن الأخير كان يعرف بـ«أمير الجبل»، وأن جنبلاط طلب منه في إحدى المرات السفر إلى أميركا الجنوبية، ليبعده عن الساحة اللبنانية «بعدما بات مطلوباً في أكثر من ملف»، لافتاً إلى أنه «شغل منصب المدّعي العام للمحكمة التابعة للإدارة المدنية في الجبل».