ترامب vs هاريس: الانتخابات الأسوأ في تاريخ أميركا
تبدو الانتخابات الرئاسية الأميركية، في مضمونها وتوقيتها، كابوساً يؤرّق الملايين ممَّن يرزحون تحت وطأة القتل، في انتظار مجيء إدارة جديدة لا يعرف أحد عمّا تعتزم فعله شيئاً. فالإدارة المغادِرة، قرّرت، حالها حال المنتظرين، إرجاء أيّ استحقاق لِمَن سيتسلّم من بعدها، فاعتمدت الدبلوماسية سلاحاً، مجرّدة إيّاها من مفاعيلها، حتى إنه كلّما شاعت بادرة تفاؤل هنا أو هناك، ازداد التوحُّش الذي لا يكاد يناظره مكرٌ على مرّ التاريخ. ترحل إدارة جو بايدن، مخلّفةً وراءها كوارث تشغل الإقليم والعالم، بعدما مانعت، على مدى عام كامل، عقلنة المأساة، التي خلّفتها سياساتها الخارجية، بدءاً من حرب أوكرانيا، وصولاً إلى حربَي غزة ولبنان. ولم يكن برنامج البيت الأبيض على مستوى الداخل، أحسن حالاً، حيث يتفشّى التضخّم، ويزداد الانقسام ضراوة، على ضفتَي الحزبَين الكبيرَين. وكما ورث بايدن عدّة شغل دونالد ترامب، وتمسّك بها، بعدما حاربها ابتداءً، فلا بدّ أن يورث عدّته الخاصة، لخليفته، حتى وإنْ بدا أحدهما أو كلاهما على قدْر من الخلاف مع الرئيس السابق.
وباستتثناء ما يتّصل منها بمعرفة خطط الرئيس الأميركي الجديد للمنطقة، وأيّ شكل من التسويات سيسعى إلى فرضه، فإن الانتخابات المرتقبة، يوم الخامس من تشرين الثاني، ربّما تكون الأسوأ في التاريخ الأميركي، إنْ لجهة المرشّحَين نفسيهما (دونالد ترامب، وكامالا هاريس)، أو برامجهما التي تظلّ في جانب كبير منها مبهمة، وغير قابلة للتنبؤ. كما أن هذه الانتخابات ليست تاريخية بأي حال، ولا طبعاً صراعاً بين «الخير» و»الشر» - كما يسوّق لها الديمقراطيون -، بل مجرّد أربع سنوات أخرى من انفلات العقال الأميركي، في انتظار ما سترسو عليه موازين القوى الدولية.
وإذ تبقى النتيجة النهائية رهن هوامش الخطأ في هذه الولاية أو تلك - وإنْ كانت التقديرات لا تزال تمنح ترامب أرجحيةَ الفوز بـ67% -، فإن الانتخابات المرتقبة، وأيّاً كان اسم الفائز فيها، ستكون بمنزلة نقطة تحوّل بالنسبة إلى الحزبَين: الديمقراطي، الذي مرّر أربع سنوات من عمر ولاية بايدن، يمكن وصفها بالأسوأ بكل المقاييس، في تاريخ الحزب، إذ من شأنها أن ترتدّ سلباً على بنيته، وطريقة عمله، وصولاً إلى كيفية اختيار مرشحيه، فضلاً عن برامجه وأولوياته في الداخل كما في الخارج؛ والجمهوري، الذي تلاشى جناحه التقليدي في ظلّ زعامة ترامب، و»أيديولوجية ماغا» التي مثّلت خطّاً «ثوريّاً» في بنيان الحزب العريق، فيما يمكن خسارة زعيمته الحالي أن تُجدّد آمال بعض «المعتدلين»، في حرفه عن المسار الذي يمضي فيه منذ عام 2016. لكن تظلّ هناك أزمة القاعدة الناخبة العريضة الموالية للمرشح الجمهوري، وليس بالضرورة للحزب نفسه، وهي التي سيسعى الأخير للحفاظ عليها، في أيّ استحقاق مقبل. وثمّة، في الموازاة، مخاوف في أوساط الأميركيين من فوضى ستتسبّب بها هزيمة ترامب، بعدما أقرّ هو نفسه بأنه لن يقبل أيّ نتيجة لا تأتي في مصلحته. ففي استطلاع للرأي أجرته «أسوشيتد برس»، قال 4 من كل 10 أميركيين، إنهم قلقون بشدّة من «محاولات عنيفة لقلب النتائج»، فيما اعتبر 7 من كل 10 أن الانتخابات «ستُدار بشكل جيد نسبياً»، وفق مركز «بيو» للأبحاث.
وتُظهر الاستطلاعات أيضاً أن المنافسة بين المرشحَين متقاربة، مع تعادل ترامب وهاريس في بعض الولايات الحاسمة، أو تقدّم أحدهما أو تأخّره عن الآخر بفوارق ضئيلة، وكل ذلك ضمن هامش الخطأ الإحصائي. ففي استطلاع حديث نشرت نتائجه شبكة «فوكس» الإخبارية، يتبيّن أن ترامب يتقدّم على هاريس في بنسلفانيا بنسبة 50% في مقابل 49%، فيما يتعادلان في ولاية ميشيغان بنسبة 49% لكلّ منهما، ويتقدّم المرشح الجمهوري على منافسته الديمقراطية بـ50% في مقابل 49% في كارولينا الشمالية. ويعني ما تقدّم، أن بضعة آلاف من الأصوات في الولايات السبع المتأرجحة - ثلاث ولايات في الشمال (ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن)، وولايتان في الجنوب الشرقي (جورجيا وكارولينا الشمالية)، وولايتان في الجنوب الغربي (أريزونا ونيفادا) - هي التي ستحسم اسم الرئيس، في غياب أيّ مفاجأة في إحدى الولايات الأميركية الـ43 المتبقية.
ومع ذلك، ثمّة مفارقات في رئاسيات 2024، لا يمكن القفز عليها؛ وأبرزها: عودة رئيس سابق إلى المشهد السياسي، علماً أن ترامب 2024 لن يكون بالضرورة على صورة ترامب 2016، خصوصاً أن هذه ستكون ولايته الثانية والأخيرة، بخلاف هاريس التي ستحرص، إذا ربحت، على «مسايرة» قواعدها الناخبة، فضلاً عن أنها قد تستمرّ في اتباع سياسة صارمة في الخارج، تحفظ الخطّ الذي سار عليه جو بايدن. ومن المفارقات أيضاً، إدانة ترامب في قضايا بعضها جنائي، ومحاولة اغتياله، ثم التنحّي المتأخر لبايدن من السباق، ما فتح المجال أمام نائبته التي قد تصبح أول امرأة تشغل منصب الرئاسة في الولايات المتحدة.
لكن أهمية المشهد الانتخابي الراهن، تكمن في كونه يلخّص أزمة الحزبَين السياسيَّين المهيمنَين على الحياة السياسية الأميركية. فقد بدأت أزمة «الجمهوري» مع ترشيح ترامب لمنصب الرئاسة في عام 2016، ولاحقاً خسارته أمام بايدن في رئاسيات 2020، ورفضه الاعتراف بالهزيمة، فيما لم يجد الحزب، كما يبدو، بديلاً ليرشّحه بدلاً من رجل الأعمال الصاخب. وممّا لفت، أن أزمة الحزب دفعت أحد قدامى الجمهوريين، هو نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني، إلى إعلان دعمه لهاريس. وقال: «في تاريخ أمّتنا الممتد لـ248 عاماً، لم يكن هناك فرد يشكّل تهديداً أكبر لجمهوريتنا من دونالد ترامب… لقد حاول سرقة الانتخابات الأخيرة باستخدام الأكاذيب والعنف لإبقاء نفسه في السلطة بعدما رفضه الناخبون… لا يمكن الوثوق به في السلطة مرّة أخرى. كمواطنين، يقع على عاتق كلّ منّا واجب وضْع البلاد فوق الانتماء الحزبي للدفاع عن دستورنا. ولهذا السبب، سأدلي بصوتي لنائبة الرئيس، كامالا هاريس». غير أن مرشح الجمهوريين، يركّز، كما يقول المحلّل كالفن دارك، على «حشد الناخبين الأساسيين، بدلاً من الفوز بالناخبين المعتدلين أو المستقلّين، فيما تسعى حملته إلى الوصول إلى الناخبين الذين لم يدعموا الجمهوريين في الماضي، من مثل الشباب الأميركيين من أصول أفريقية، واللاتينيين”.
أمّا الحزب الديمقراطي، فبدأت أزمته نتيجة التخبّط الذي أصابه بعد هزيمة هيلاري كلينتون في انتخابات 2016 أمام ترامب، ثم اختياره نائب الرئيس السابق، جو بايدن، ليخوض سباق 2020، ولاحقاً إعلان الأخير الترشّح لولاية ثانية، ثم تراجعه في أعقاب محاولة اغتيال ترامب، والتي صنعت من الرئيس السابق بطلاً. لكن هاريس، التي بدت بالنسبة إلى كثيرين عاجزة عن منافسة ترامب خلال أزمة تمسّك بايدن بالسباق الانتخابي، أظهرت تقدماً ضئيلاً في استطلاعات الرأي الأخيرة، يمكن عطفه على التباين الشديد إلى حد الانقسام في المواقف بين أجنحة «الديمقراطي» المختلفة تجاه مجموعة قضايا، أبرزها حرب غزة، إذ ثمّة جناح تقليدي «مؤمن» بالانحياز المطلق إلى إسرائيل، ويمثّله بايدن، وآخر يعتقد بأنه لا يمكن تجاهل الربط بين الحرب في غزة والدعم الأميركي لإسرائيل في ظل الإدارة الديمقراطية الحالية. ومع ذلك، اختارت هاريس أن تمضي على خطى بايدن في دعم إسرائيل؛ فرفضت، في مقابلة أجرتها مع شبكة «سي إن إن»، دعوات «البعض» من داخل حزبها إلى إعادة النظر في مسألة تسليح إسرائيل، لأنها «تدعم إسرائيل القوية»، وإنْ ذكرت أنه ينبغي التوصّل إلى صفقة توقف إطلاق النار في القطاع. وإلى ما تقدّم أيضاً، فإن قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة تعتقد بأن «الديمقراطي» تحت قيادة بايدن أو مرشّحته هاريس، لم يضع مشاكلها الاقتصادية ضمن أولوياته، بنفس القدر مثل قضايا الحقّ في الإجهاض، وحقوق المثليين، والاحتباس الحراري. ومن هنا، لم يعد مفاجئاً أن يُنظر إلى هاريس باعتبارها «ليبرالية من سان فرانسيسكو، وسياسية تقدّمية تهتمّ بشدّة بحقوق الإنجاب والتنوّع العرقي”.