لم يعد الحديث عن الضغط التصاعدي لجبهة جنوب لبنان على الواقع الإسرائيلي وصفاً من جانب واحد، بل بدأ يتصدّر وسائل الإعلام الإسرائيلية وألسنة خبراء ومعلقين. كما يبدو واضحاً حضوره في خلفية مواقف قادة أمنيين وسياسيين، بدءاً من رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي، الذي تحدث عن إمكان انتهاء العملية البرية خلال أسبوعين (لكن القرار النهائي لدى المستوى السياسي) وصولاً إلى وزير الأمن يوآف غالانت الذي حذّر من أنه ليس كل الأهداف يمكن تحقيقها بالقوة العسكرية.
قائد تشكيل الدفاع الجوي السابق في جيش العدو، العميد تسفيكا حيموفيتش، نبّه إلى أن حزب الله لا يزال يحتفظ بقدراته الأساسية ويمتلك قدرات صاروخية يستطيع من خلالها تهديد ليس فقط الشمال وإنما كل إسرائيل. وتوقف عند التكتيك الذي يتبعه الحزب في سلب الشعور بالأمن الشخصي والجماعي في شمال فلسطين المحتلة، مشيراً إلى أن «صفّارات الإنذار في الشمال هي روتين للصباح المتوتر»، وحزب الله يدير هذا الأمر «بكثير من الذكاء»، ووفق خطة مدروسة تأخذ في الحسبان اختيار الأماكن وتوقيتها وكثافتها ووتيرتها. ويعزو حيموفيتش ذلك الى أن «حزب الله يريد استنزافنا لفترة طويلة عبر روتين متغير».
خصوصية هذه المتغيرات لا تقتصر فقط على البعد الميداني، بل كونها تعبّر أيضاً عن انكسار الاندفاعة الإسرائيلية التي تريد تغيير الشرق الأوسط انطلاقاً من لبنان، وتغيير الواقع الأمني في لبنان بما يؤدي الى فرض هيمنة أمنية إسرائيلية وسياسية أميركية تسمح للولايات المتحدة بإحكام قبضتها على لبنان. وستحضر هذه الحقائق في حسابات المبعوث الأميركي الخاص عاموس هوكشتين الذي عاد الى المنطقة، وإن كان من المرجح أن يواصل الطرفان الأميركي والإسرائيلي المكابرة في هذه المرحلة. كما أنها تعني أن لبنان يستند الى عناصر قوة لمواجهة الإملاءات الإسرائيلية، وهو أمر أساسي في أي مفاوضات يجريها الطرف اللبناني.
وليس أمراً عابراً خروج التباين بين نتنياهو والمؤسسة العسكرية (وعلى رأسها هليفي وغالانت) الى العلن. إذ لا يزال رئيس وزراء العدو يتحدث عن مواصلة المعركة حتى تحقيق الأهداف، ويضفي عليها طابعاً وجودياً بما يسمح له بالالتفاف على الخسائر المتصاعدة التي تشكل ضغطاً كبيراً على المؤسسة العسكرية والمجتمع الإسرائيلي.
في المقابل، يكشف خروج هذا التباين الى العلن أيضاً عمق الخلاف القائم بين الطرفين، وإن كانت الكلمة الأخيرة تبقى للمستوى السياسي. لكن من أهم مؤشراته أن مفاعيل المقاومة انتقلت من الميدان الى داخل مؤسسات التقدير والقرار. وهي خطوة تأسيسية في مسار كسر إرادة مؤسسة القرار الإسرائيلي وإجبارها على التواضع في أهدافها ورهاناتها.

يضفي نتنياهو على الحرب طابعاً وجودياً للالتفاف على الخسائر التي تشكل ضغطاً كبيراً على المؤسسة العسكرية


وعلى وقع الخسائر المتصاعدة، استعاد خبراء ومعلقون مسار حرب العام 2006 التي بدأت بما اعتبروه نجاحاً عسكرياً بهجوم جوي استهدف منظومات الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى (تبيّن لاحقاً أنها فشلت في تحقيق أهدافها)، ومرّت بمرحلة مكابرة لدى القيادتين السياسية والأمنية بعدما اعتبرتا أن إسرائيل انتصرت في الحرب، قبل أن تضطرّا الى خفض سقف الطموحات وصولاً الى إصدار القرار 1701. والآن يتكرر السيناريو نفسه، وإن في ظروف مختلفة وضربات أشد وأكثر خطورة. إذ بدأت اسرائيل حربها بسلسلة ضربات قاسية جداً لقيادة حزب الله العسكرية السياسية، واعتبرت أنها نجحت في تحييد خطره، ولم يبقَ سوى بعض الخطوات التكميلية للإجهاز على الحزب. لكن «المفاجأة كانت أن حزب الله يواصل إطلاق مئات الصواريخ كل يوم على شمال البلاد وعلى أطراف حيفا، من دون أن تتمكن إسرائيل من وقف النار».
لذلك، تتعالى أصوات محذّرة من تكرار خاتمة حرب 2006، وتحديداً ما يتصل بالمرحلة التي تلي الحرب على مستوى إعادة بناء قدرات حزب الله. إلا أن نجاح الحزب في مفاجأة العدو والصديق أيضاً، والتماسك المؤسساتي والمرونة التي يتمتع بها والتصميم الذي أذهل المتربّصين، يكشف أن كل هؤلاء على موعد على مفاجآت تتصل أيضاً بما ستنتهي إليه هذه الحرب وما سيليها. انطلاقاً من أن العوامل التي حالت دون تحقيق العدو أهدافه في أصعب مرحلة مرّ بها حزب الله، هي نفسها التي سترسم معادلة ما بعد الحرب بكل عناوينها.