تقول القصة إنَّه واجه بمفرده فرقةً عسكريَّةً غازية، بمقاتليها ودبَّاباتها. وتقول أيضاً إنَّ المواجهة استمرَّت لساعات.
بمفرده، فرقة كاملة، ولساعات! هي ليست قصَّةً إذاً؛ إنَّها أسطورة.
اسمه إبراهيم حيدر، والاسم ضروريٌّ هنا. هذا الاسم يجب أن يبقى؛ أن تُسمَّى به الشوارع والساحات والمدارس والجامعات، وأن يُطلَق على المواليد الجدد من الجنسين كاسمٍ مُركَّب.
لا يدلُّ هذا الاسم على حامله فقط، الذي أكَّد على أسطوريَّته في فيديو قتاله الأخير، حيث شاهدناه يصوِّب نحو أهدافه الكثيرة هادئ الأعصاب ثابت القلب ديناميكياً، من دون أدنى أثرٍ من ارتباكٍ أو تردُّد، ومن دون أن يرفَّ جفنه أو ترتجف يده وهي تتنقَّل بين الأسلحة المتوافرة في متناولها، مستخدمةً إيَّاها بفاعليَّة. إبراهيم حيدر يدلُّ على عشرات الآلاف من رفاقه المقاتلين، الذين تدرَّبوا معاً، وقاتلوا معاً، وكلَّما سقط منهم واحدٌ التقطوا شجاعته وتمثَّلوها معاً، فازدادوا شدَّةً وعزماً.
من يشاهد الفيديو يسمع نفسه يقول: «هؤلاء مقاتلون لا يمكن أن يُهزموا!». الإسرائيليون شاهدوا الفيديو بالطبع، وأعادوا مشاهدته، وسمعوا أنفسهم يقولون تلك الجملة، ويُعيدون القول. ثم فزعوا من قولهم ذاك، وخافوا لأنَّهم تأكَّدوا مجدداً أنَّ ما عرفوه في حروبٍ سابقةٍ لم يتغيَّر.
ثم تسمع من يقول إنَّ هؤلاء الشبَّان، الذين يقاتلون في ساحات بيوتهم، وساحات قراهم، وفي الحقول بين أشجارهم التي تسلَّقوها صغاراً، يأتمرون بأوامر دولة أخرى ويدافعون عن مصالحها. حسناً، أمرنا لله! الغباء قديم، والارتزاق أيضاً. لا وقت لمجادلة هؤلاء الآن، والأفضل تجاهلهم.
لستُ من هواة أو مناصري تذليل الخلافات بين الأديان أو تسخيفها، كما أنِّي لستُ من هواة إثارتها والتداول بها. إنَّه موضوع روحاني، يقع في العمق من شخصيَّة كلٍّ منَّا. لكنَّ المشترك بين الأديان موجود ويجب أن يُبنى عليه، في الجانب الاجتماعي لا الديني، خاصَّة في مثل هذه الأوقات الصعبة، في بلداننا التي ينزع أهلها إلى التديُّن وإلى التأثُّر بالخطاب الديني، وفي مواجهة محاولات التوتير المذهبي التي يُثيرها الأغبياء والمرتزقة المذكورون أعلاه أنفسهم.
كان القديس جاورجيوس، ولقبُهُ «العظيم في الشهداء»، جندياً هو الآخر
كان القديس جاورجيوس، ولقبُهُ «العظيم في الشهداء»، جندياً هو الآخر، وهو ذو كرامةٍ واعتبارٍ لدى المسلمين أيضاً. يُحكى في سيرة حياته أنَّه تعرَّض للكثير من التعذيب، بعدما ألقي القبض عليه لتركه الوثنيَّة، التي كانت الدين الرسمي للإمبراطوريَّة الرومانيَّة في ذلك الوقت، مطلع القرن الرابع، ولأنَّه صار مسيحيَّاً. أرداوا من تعذيبه أن يثنوه عن إيمانه، ولمَّا فشلوا أرداوا قتله، وتفنَّنوا في أساليب القتل التي فشلت كلُّها، فاضطروا أخيراً إلى أن يفصلوا رأسه عن جسده.
تكاثر جنود الاحتلال على إبراهيم حيدر، أطلقوا النار عليه، رموه بالقنابل والقذائف... إلى أن اضطروا في النهاية إلى طلب تعزيزاتٍ ونسف المبنى الذي تحصَّن فيه بالطيران.
هكذا مات إبراهيم حيدر، وهكذا وُلِدَت أسطورة إبراهيم حيدر.