في الواقع، لا مجال للإنكار بأن إيران قد تفوّقت على إسرائيل في مجالات الصور الذهنية التي تمكّنت من تثبيتها في هجومها الأخير، الذي بدت قوّته واضحة للعدو والصديق على حدٍ سواء، ورُسمت معالمه بوضوح في السماء وعلى الأرض. وفيما حاولت إسرائيل التقليل من حجمه، سرعان ما فُضِحت بعد تكشف الأضرار في قواعدها العسكرية، وكذلك في الحيّز المدني، طبقاً للأدلة المصوّرة والاعترافات الرسمية. وعلى الرغم من أنه ليس واضحاً تماماً حجم الأضرار التي تسببت بها الهجمات الإسرائيلية على إيران، إلا أن ثمة مروحة من ردود الفعل الإسرائيلية تشير إلى أن الرد كان ينبغي أن يكون أقسى، وأن إسرائيل فوّتت فرصة تدفيع إيران ثمناً مؤلماً. وفي هذا الإطار، قال رئيس حزب «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان: «لا يمكننا تجاهل الواقع الصعب، والذي يقول إن الإيرانيين لن يتوقفوا هنا. سيواصلون بوسائلهم التقدّم نحو السلاح النووي، وتمرير الأموال من بيع النفط والغاز، لحزب الله والحوثيين، والميليشيات الشيعية»، مضيفاً أنه «للأسف، يبدو أنه بدلاً من جبي ثمن حقيقي، اكتفت الحكومة الإسرائيلية بالتباهي وبالعلاقات العامة. شراء الصمت بدلاً من الردع الواضح. حان الوقت للعمل بالطريقة التي تظهر قوّتنا وليس فقط الحديث عن هذه القوّة».
وتقاطع ما تقدّم، مع رأي رئيس المعارضة الصهيونية، يائير لبيد، الذي اعتبر أن «القرار بعدم ضرب أهداف استراتيجية واقتصادية في إيران خطأ. كان علينا، بل يجب علينا، تدفيع إيران ثمن أكبر بكثير». وهو ما انعكس كذلك في رّد عضو الكنيست من «الليكود»، طالي غوليف، التي اعتبرت أن عدم مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية سيكون سبب «بكاءٍ لأجيال». أمّا رئيس حزب «الديموقراطيون»، ونائب رئيس الأركان سابقاً، يائر غولان، فظهر راضياً؛ إذ رأى أن «الضغط الأميركي آتى أُكله، أو أن المنطق العسكري عمل بهدف إحقاق تغيير ما، ولكن على ما يبدو فإن ثمة احتمالية كبيرة بأن الرد الإسرائيلي أضرّ بالقدرات الدفاعية والهجومية الإيرانية، من دون جرّنا إلى حرب استنزاف واضحة ليست في مصلحة إسرائيل على المستويين الأمني والقومي». وما بين الرأيين المتقدمين، برز تعليق
وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي رحّب ب»الهجوم على إيران بوصفه ضربة أولى لإلحاق الضرر بالمصالح الاستراتيجية الإيرانية»، مستدركاً بأن «منع التهديد الإيراني من تدمير البلاد هو واجب تاريخي» يقع على إسرائيل.
ليبرمان: الإيرانيون لن يتوقّفوا هنا
وبعيداً من آراء الأطراف السياسية، والتي طغت على بعضها المماحكات الداخلية، برزت تعليقات لخبراء وصحافيين، صبّ أغلبها في خانة التعظيم من آثار الهجوم. وفي هذا الإطار، رأى الباحث الكبير في معهد «أبحاث الأمن القومي»، والخبير في الشؤون الإيرانية، راز تسيمت، أن التعليقات الإيرانية الأوليّة على الهجوم الإسرائيلي «محاولة واضحة لتقليل خطورته»، معتبراً أن الهجوم يهدف إلى منح القيادة الإيرانية «سُلّماً للنزول عن شجرة التهديدات». وتساءل عما إذا ما كان المُرشد الأعلى، علي الخامنئي، سيتجه إلى احتواء ما سمّاه «الهجوم الأكثر أهمية منذ الحرب الإيرانية - العراقية أم لا؟»، والذي خُطط له بطريقة «تسمح للقيادة في طهران بإنهاء جولة الضربات الحالية»، عبر الامتناع عن ضرب بنى تحتية وطنية أو منشآت نفطية ونووية. ووفقاً لتسيمت، فإن المعضلة التي تواجه القيادة الإيرانية هي «الأكبر على الإطلاق» منذ سنوات؛ والسبب أن طهران ملزمة بالرد على الهجوم الإسرائيلي للحفاظ على درجة ما من الردع، «فإن قررت عدم الرّد، فإن كُثراً في داخل إيران وخارجها سيعتبرون ذلك دليلاً على الفجوة بين الالتزام بالرد، والتنفيذ الفعلي»، فيما الرد «يمكن أن يضعها أمام تهديدات أكبر، بما في ذلك خطر الانجرار إلى صراع عسكري مستمر ليس فقط مع إسرائيل، بل مع الولايات المتحدة أيضاً».
وإذ اعتبر أن التطورات الإقليمية الأخيرة «تتطلب من إيران إعادة تقييم مفهومها الأمني»، قدّر أن القيادة الإيرانية قد تتبنى واحداً من ثلاثة توجهات رئيسيّة أو تجمع بينها، وفي مقدمتها نهج «إيران أولاً»، والذي قد يكون الرئيس مسعود بزشكيان الممثل الأبرز له، ويُلخص بأن «من الأفضل لإيران في هذه المرحلة تجنب الصراع العسكري المستمر مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة، وأن تركز على حل مشاكلها الداخلية، وأن تسعى إلى تحسين قدرتها على مواجهة التحديات، من خلال الجهود المبذولة لتسوية المسألة النووية مع الغرب». أمّا النهج الثاني فهو «مواصلة الوضع الحالي من دون التراجع عن مواجهة النجاحات الإسرائيلية الأخيرة، ولكن أيضاً من دون الوقوع في الفخ الذي تحاول تل أبيب نصبه لطهران؛ وهو الانجرار إلى صراع عسكري شامل بمشاركة أميركية»، وهو ما يُترجم عملياً بمواصلة حرب الاستنزاف في غزة ولبنان. وبالنسبة إلى النهج الثالث، فيرى تسيمت أنه يستند إلى التطورات الأخيرة، والتي كشفت عن «ثغرات كبيرة في المفهوم الأمني الإيراني»، تتطلب أن تُحسّن إيران قدراتها على الردع، ليس فقط في المجال الصاروخي، واستعادة قدرات حزب الله وأركان بقية المحور الموالي لها، ولكن أيضاً من خلال العقيدة النووية ودراسة إمكانية تحقيق اختراق في مجال الوصول إلى السلاح النووي، الأمر الذي من شأنه أن يوفر لإيران «بوليصة التأمين» النهائية ضد إسرائيل والولايات المتحدة.
وفي الاتجاه نفسه، أعرب المحلل العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، رون بن يشاي، عن اعتقاده بأن الهجوم الإسرائيلي يهدف «إلى إلحاق ضرر حقيقي بالقدرات العسكرية الإيرانية، وجعل النظام الإيراني يدرك بأنه بات مكشوفاً ومعرّضاً للخطر، وبالتالي تعزيز الردع بمواجهته، وإضعافه من خلال إلحاق ضرر كبير بمكانته في نظر المواطنين، مع الحرص على منح طهران «سلّماً للنزول عن الشجرة»». وإذا كان ما تقدّم صحيحاً، فإنه يعبّر بالفعل عن استمرار الاستراتيجية الإسرائيلية - الأميركية الهادفة إلى فصل الجبهات، من خلال تبديد فكرة الحرب الإقليمية، ليتسنّى لصنّاع القرار في إسرائيل المضيّ في حرب الإبادة على غزة والعدوان على لبنان.