أصعبُ الكتابة تلك التي تواكبُ المراحل التي يتسارع فيها التاريخ. كل يومٍ يمرُّ يحملُ معه عوامل وتطوّرات ستؤثّر على نظرتنا إلى تاريخنا وعلى مستقبلنا بصورة لا ندري بها بعد. إسرائيل تعرضت لزلزال كبير في «طوفان الأقصى» وأدركت أنّ هؤلاء العرب المتخلّفين لا يخافون منها كما كانوا، أو كما كانت الأنظمة وجيوشها. لم يعد هؤلاء العرب كما ألِفَتهم إسرائيل في الخمسينيّات والستينيّات. قلّت العنتريّات وزادت البطولات. هناك مرحلة من النضال العربي ضد إسرائيل لم يتّسم إلا بالشعر (الرديء). أنبتَ الصراع العربي الإسرائيلي حركات مقاومات جديدة، وعناصرها يتشوّقون لمواجهة العدو أكثر ممّا يتشوقون لأيام السلم.

تسرّبت أخيراً في وسائل الإعلام الإسرائيلية تسجيلات جديدة لاجتماعات حكومة العدو في عهد غولدا مائير. وفي واحدة من التسجيلات تقول إنّ اليوم الذي يزول فيه عنصر الخوف العربي من إسرائيل ستكون في ذلك «نهايتنا». لم يعد المقاومون يخافون من إسرائيل، لا، بل العكس هو الصحيح. المقاتل الإسرائيلي يتحاشى مواجهة مقاتلي «حماس» أو الحزب بالطرق شتّى وعبر قصف وحشي لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية. والإفراط في القصف الوحشي هو محاولة لتطويع العدو تمهيداً لسحقه. إنّ هذا القصف الوحشي بهذه الصورة في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن دليل إفلاس سياسي وعسكري. لا يملكون في جعبتهم غير الوحشيّة. ليس من مشروع منطقي لمستقبل الصهيونيّة على أرض فلسطين. الافتراض التاريخي للصهيونية كان أنّ من شأن الوقت أن يعالج مشكلات إسرائيل وتزول المقاومة الفلسطينيّة من الوجود. تعلمُ إسرائيل أن لديها فرصة تاريخية بوجود جو بايدن في البيت الأبيض (أو بالأحرى بغياب جو بايدن عن البيت الأبيض) وذلك لتفعل ما تشاء وتستعمل من العنف العشوائي ما تشاء. هذه فرصتها التاريخية كي ترفع وتيرة العنف الجماعي الذي تمارسه ضد العرب. وهي تستفيد أيضاً من حلفها مع نظامَيْن عربيَّين، السعوديّة والإمارات، اللّذين يسيطران على مقدّرات الجامعة العربية (النائمة على مدى سنة كاملة). هذه الفرصة لإسرائيل لن تتكرّر من حيث السياق العالمي، أي أميركا مع الحلف العربي - أي السعودية والإمارات. هي تريد أن تستنفد كل وسائل العنف الوحشي المفرط من أجل كسر إرادة المقاومة في المنطقة. لكن في الصراع بين الشعوب هناك استحالة للعودة إلى نقطة سابقة. مهما حاولت إسرائيل، لن تعيد التاريخ القهقرى، إلى زمن الـ67 حيث كانت صورة الإسرائيلي تخيف العربي حتى في مخدعه. وزيادة منسوب العنف الجماعي له مردود متناقص لأنك لا تستطيع أن تتخطّاه إلا عبر المزيد من التدمير والقتل والإرهاب والإبادة ومن دون زيادة في الفوائد السياسيّة. ماذا يمكن لإسرائيل أن تفعل ولم تفعله بعد؟ هي تقول علناً إنّها تريد إجراء تطهير عِرقي في غزة، وتريد إجراء تطهير عِرقي في الشريط الحدودي اللبناني على أساس طائفي.
الحزب تلقّى ضربات لم يتوقعها. نستطيع أن نناقش بأنه كان عليه أن يتوقعها، لكن ما في اليد حيلة. ما حصل قد حصل والحزب أمامه أكبر تحدٍّ في تاريخه منذ التأسيس. هو إمّا أن يصعد وينمو أو يواجه مصير منظمات الثورة الفلسطينية. لكن الهزيمة ليست خياراً للحزب. هو يعلم أنّ الهزيمة تعني أن كل أعداء الأرض سينقضّون عليه مرّة واحدة. كما أنّ تفلّت عملاء إسرائيل في لبنان (في الإعلام والسياسة والتغيير) يعني أنّه لا يمكن أن يعود إلى الساحة الداخليّة إلا ظافراً. السؤال ليس إذا كان سينهض، ولكن كيف سينهض وبأيّ صورة وعلى أيّ أساس. وكيف يمكن النهوض وإعادة البناء وأنت تخوض أشرس حرب في تاريخك. والحزب يخوض هذه الحرب في الوقت الذي يتلقى فيه الطعنات من الداخل اللبناني، وفي الوقت الذي انسحب فيه الجيش اللبناني من مواقعه في جنوب لبنان بناء على أوامر إسرائيلية (عذراً، فإنّ قيادة الجيش أوضحت أنّ الجيش لم ينسحب بل «أعاد التمركز»)، والفارق بين الانسحاب وإعادة التمركز بناء على أوامر إسرائيلية كبيرٌ جداً ولا يدركه إلا الراسخون في العلاقات الدولية والأمور الإستراتيجية التلفزيونية.

على أعداء حزب الله أن يتمنَّوا أن ينتصر في هذه الحرب لأنّ عودته منتصراً ظافراً سيعود عليهم بالخير والنفع، وعلى الوطن بالأمان الذي نعِم به بعد انتصار تموز


والمطالبة بحصرية السلاح بيد الجيش تتعاظم. يا للعجب العجاب. كيف يمكن للجيش الذي لا يردّ على مصادر النيران الإسرائيلية أن يقوم بدور يفوق الدور الذي تقوم به المقاومة لصدّ عدوان إسرائيل؟ حتى قوات اليونيفيل التي تتعرض للقصف من إسرائيل، يطالبها بعض اللبنانيين بتسلّم زمام الحدود كأنها هي استطاعت أن تحدّ من عدوان إسرائيل في هذه الحرب أو في غيرها. فلتَ العقال. تبخرت تلك الأقوال من 14 آذار أنّ «إسرائيل عدوّ»، أو أنّ المقاومة ستجد أن «الكل مقاومة في لبنان» إذا ما اعتدت إسرائيل على لبنان، أو الذين قالوا، مثل وضاح الصادق، إنّهم سينضوون في صفوف المقاومة لو أنّ إسرائيل اعتدت على لبنان. كل ذلك اختفى. على العكس، كما اشتبهنا منذ البداية، فإنّ كل الذين قالوا «إن إسرائيل هي عدو» كانوا بصراحة كلية يعتنقون الموقف الإسرائيلي ضد لبنان. تستطيع أن تكتب تاريخ لبنان منذ عام 48 بناء على معيار واحد: فريق مع إسرائيل وفريق ضد إسرائيل، في كل المراحل في لبنان. طبعاً كانت هناك مراحل، خصوصاً سنوات سيطرة النظام السوري، عندما لجأ كثيرون إلى التقيّة، فزعم كتائبيّون وقواتيّون أنّهم من داعمي المقاومة كما أنّ رفيق الحريري كان يدعم المقاومة باللفظ في العلن ويطعنها في السرّ في دول الغرب.
على أعداء حزب الله أن يتمنَّوا أن ينتصر في هذه الحرب لأنّ عودته منتصراً ظافراً سيعود عليهم بالخير والنفع، وعلى الوطن بالأمان الذي نعِم به بعد انتصار تموز. هم يتمنَّون أن ينهزم الحزب أمام إسرائيل، لكن هزيمة الحزب لن تنعكس خيراً عليهم خصوصاً أن القائد التاريخي للحزب غير موجود (وقد نُسب إلى عماد مغنية قولُه في سؤال حول احتمال اغتيال نصرالله، إنّه في هذه الحالة يكونون قد قضَوا على الأكثر عقلانية بيننا). الانتصار على إسرائيل يفيد لبنان فيما الهزيمة ستضرّ بكل لبنان خصوصاً بالذين يربطون مصلحتهم وصعودهم ومناصبهم المأمولة بنجاح إسرائيل العسكري. وهناك استعداء واضح لكل الشيعة من قبل الفريق المرتبط بالمصلحة الإسرائيلية وبالتحالف مع النظامَين السعودي والإماراتي. هؤلاء يريدون اختيار زعماء الشيعة بالنيابة عنهم. وهذا ليس بجديد. حاولت إسرائيل ذلك من قبل في صيف 82 وأتت بأشخاص لم نكن نسمع بهم من قبل. مَن سمع منكم بشوقي العبد الله؟ محطة «العربية» قررت أن تنكش التحقيق في اغتيال رفيق الحريري وأن تنكشَ أيضاً ملف التدخل العسكري لحزب الله في سوريا، وطبعاً بناء على تصوّرات المعارضة السورية المسلحة واتهاماتها (والتي تبيّن أنّ الكثير منها بات من الأكثر حماسة لإسرائيل في كل العالم العربي).
يتسرع كثيرون في لبنان اليوم في الحُكم على نتائج حرب لم تنتهِ بعد، والحربُ، على ما يقال، بخواتيمها. والحلم الإسرائيلي القديم بالسيطرة على كل لبنان، أو جزء من لبنان، تبخّر بعد تجربة المقاومة في التسعينيّات. نستطيع أن نزيل من الحسبان إمكانية أن تقوم إسرائيل باحتلال جزء من أرض لبنان لعلمها بما ستلاقيه من مقاومة. ما ستحاول أن تفعله هو أن تحرق منطقة بكاملها على الشريط الحدودي وعلى أساس طائفي من أجل أن تشعر فيها بالراحة وأنها في مأمن. لكن لن يتسنى لها ذلك. لن تقوم قائمة لأي حركة سياسية في جنوب لبنان تُطمئن إسرائيل على حسابِ سيادته. إنّ الجنوب بات منذ عام 2000 عنوان السيادة في لبنان. ليس من سيادة كما في الجنوب ولن يكون من سيادة أكثر ممّا في الجنوب. إنّ معارك الجنوب ضدّ إسرائيل، وفي مراحل مختلفة، هي المعارك الأكثر سيادية في التاريخ اللبناني المعاصر. ومن أجل ذلك تقوم إسرائيل وأدواتها في لبنان بتعيير السياديّين الحقيقيّين بأنهم إيرانيون أو أجانب؛ وذلك لتقويض العنصر الأساسي في حركتهم.
كل مشكلات لبنان وكل مشكلات الإقليم هي في جانب منها، وجانب أساسي منها، نتاج وجود إسرائيل على حدودنا. هي تتدخل في كل الصراعات العربية والقلاقل والحروب الأهليّة، من المغربِ حتى الخليج العربي. أمّا في لبنان، فكان لها دور أساسي في كل مراحل الصراعات والخلافات اللبنانية الداخلية وكانت دائماً في جانب الفريق الذي يفرّط في سيادة لبنان. وكانت دائماً تحارب الفريق الذي كان أكثر حرصاً على سيادة لبنان، ولم يمرّ على لبنان فريق أكثر حرصاً على السيادة كما حركة المقاومة الحالية منذ التسعينيّات.
لبنان سيتغير بعد هذه الحرب. عندما تنتهي لن يكون هو نفسه لأن الحزب لن يكون هو نفسه، خصوصاً بغياب قائده التاريخي. ستكون هناك رغبة قوية للانتقام مِن قَتلِ نصر الله وسيقوم البعض بتصفية الحسابات بناء على الخيانات العالمية التي سُجّلت على مرّ الأشهر الماضية. وصلنا إلى مرحلة تقوم فيها وسائل الإعلام اللبنانية بالتحريض على قصف المدنيين، وبعض وسائل الإعلام، «أم تي في» و«أل بي سي»، ليست إلا ناقلة حرفيّة لكل ما يصدر عن الناطق الإسرائيلي. ويتحمّل وزير الإعلام زياد مكاري مسؤوليات جمّة عمّا يجري في الساحة الإعلامية. هذه ساحة حرب، فحتى في أميركا، كما في الدول التي يتمثّل فيها البعض في الغرب، هناك إجراءات تسري على الإعلام، وهناك رقيب يسمح ولا يسمح. إلا في لبنان فإنّ وزير الإعلام حالياً سمح بحالة التفلّت التي يتسرب العدو منها ومن خلالها.
المشروع الصهيوني سجّلَ نجاحات قصيرة المدى، خصوصاً أنه يقيس النجاح بعدد القتلى والجرحى من العرب، وبعدد المنازل المُدمَّرة. لكن إسرائيل بعد سنة من الإبادة ليست هي، حتى في دول الغرب. راقبوا الردود على أي تغريدة موالية لإسرائيل في أي دولة غربيّة. هناك متحمّسون بِيض وملوّنون في كل دول الغرب. هناك بِيض غربيّون يهتفون بحياة نصرالله والسنوار. طبعاً، لا أثر لذلك في لبنان. لبنان منقسم. عند البعض، البطولة معقودة للأمراء والشيوخ في ملاهي لاس فيغاس ومواخيرها. هؤلاء المثال المقتدى. وعند البعض الآخر، البطولة معقودة للذين قاتلوا ضد احتلال إسرائيل وعدوانها. كيف يمكن لهذا الوطن أن يتوحّد؟

*كاتب عربي
حسابه على «اكس»: @asadabukhalil