حمزة أبو قينص المغني الفدائي
«نحتاج سنيناً طويلة ونحن نتلو نشيد الشهداء وأحلامهم لعله يصبح درباً إلى الحرية» فكيف يا حمزة ستقول الأغنية ما تعجز عنه وهي تنشد لصاحبها وحدها من دون صوتك؟
ستكون الأغنية وحيدة، لكنها من اليوم ستخبرنا أنّ المنشد حمزة أبو قينص الذي استشهد قبل أيام بقصف إسرائيلي استهدف حيّ الصفطاوي شمال مدينة غزة، آثر أن يكون إلى جانب رفاقه الشهداء الذين يصغون إلى نشيد البلاد. وستبقى يا حمزة «بقعة دم بحجم أغنيتك على قميص هذا العالم». ويستحضرنا هنا قول الشاعر الفلسطيني طه محمد علي حين وصف نفسه فقال: «سأبقى بقعة دم بحجم الغيمة على قميص هذا العالم»، فكأنه يرثيك، لا بل كل شعاب الجبال ترثيك، تلك التي سمعت صوتك وأنت تشارك زملاءك المغنين في أمكنة أخرى وهم يرتلون: «يا وطن الشهداء تكامل، فكل شعاب الجبال رثاء لهذا النشيد».
بدأ حمزة أبو قينص رحلته الفنية في الإنشاد والغناء في عمر صغير، فقد كان يشارك في الإذاعة المدرسية حين كان في الابتدائية. بدأ أولى خطواته في الإنشاد الديني والموشحات والرثاءات، وكان يسمّي نفسه على صفحات التواصل، «حداء»، والحداء هو الغناء الرثائي للراحلين والشهداء.
ولذلك، يعتبر نفسه فناناً ملتزماً، تربّى في عائلة ملتزمة في غزة، لذلك فهو يبتعد عن كل الأغاني العاطفية الأخرى كما قال، وخطا في طريق خاص يشبهه كثيراً. وقد لاحظ أساتذته والمحيطين فيه قوة صوته...
التحق بفرقة الفن الإسلامي، ليعمل بعدها في الأفراح، وطوّر نفسه في هذا المجال كثيراً، فأسّس فرقة فنية وكان هو مديرها، سمّاها فرقة «الولاء». ومنذ ذلك الوقت، صار معروفاً، لكنه سرعان ما شعر أنّه يجب أن يكون في مكان آخر، فربما يحتاجه الحزن كثيراً ليغني له ليصير طائراً يغرد، وهكذا. غادر حمزة سماء الفرح إلى فرح الشهداء الممتزج بالألم، لأنه شعر أنه هنا سوف يقوم بمهمة أصيلة ووطنية، أن يغنّي لمن قدم كل شيء من أجل وطنه. فذهب حمزة ليقبض على الجمر، وفعلاً شعر أنه في مكانه ليطلق بعدها ألبومه الأول تحت عنوان «القابضون على الجمر».
في فلسفة المغني الشهيد الغنائية والموسيقية، فإنّ الإنشاد عالم يجب التمسك به، لأنه لا يهدف فقط إلى الطرب بل إلى الدعوة، وهو معني باستعادة زمن الإنشاد القديم، ورغم أنه يعتقد أنّ الحداثة مهمة ومطلوبة لكن ليس دائماً، فأحياناً علينا استعادة زمن مضى، كان جميلاً.
تأتي كلمات أناشيد حمزة من شعراء كثيرين، منهم الشاعر عطية المصري، وقد عمل كثيراً لتنمية ثقافته الموسيقية العالية، فهو كان يعزف العود والبيانو، وقد طرق الكثير من الأبواب والألوان الفنية، حتى عرف أنه ينتمي إلى عالم الإنشاد.
في أغنيته «هزتني نسمات الليالي»، ينشد حمزة بصوته الحزين: «أبكتني صرخات الأيامى، وأنين تنامى، حول قيد وأسير، تكويني شهقات الثكالى، طعنات توالى، دمعة الطفل الغرير».
حاول حمزة هنا، كما في أغانيه وأناشيده أن يترك رسالة لكل من يسمعون، لكي يتضامنوا مع الألم الفلسطيني، لذلك كان صوته رفيقاً دائماً للشهداء الذاهبين إلى عالم آخر. فكيف لأغنية النهايات أن لا تكون هي البداية، ونحن في حضن أم البدايات وأم النهايات.
يعرف الغزيون صوت حمزة في سيارات الإذاعة في جنازات الشهداء، لأن حمزة على وعي أن من يقدم روحه من أجل بلاده، عليه أن يحمله بصوته ويترك اسمه في اللحن، وأن تبقى الثورة أيضاً حاضرة في قلوب الشباب. ففي رثاء البطل يحيا جرادات، صدح حمزة قائلاً له: «أخي طال بعدك عني وزاد وتبكي عليك طيور البلاد».
حين نسمع هذه الأناشيد ونحزن، نتذكر كل الشهداء، فأن نرثيهم كما يفعل حمزة، يشكل ثقافة سترسخ في قلوبنا ما دمنا نقاوم، فهذا اللون الغنائي نادر وقليل وقد تعامل معه حمزة بأنه أيضاً ضروري في هذا الزمن الفلسطيني المثقل برحيل الشهداء.
لم يكن الغناء فقط سلاح حمزة للدفاع عن وجود الفلسطينيين، بل كان أيضاً فدائياً ومحارباً، أثخن قوات الاحتلال بقنصه وضرباته. لذلك سيكون المغني الفدائي مقاوماً على أكثر من جبهة، وستبقى أغنيته الشهيرة تقول له على لساننا: «أخي سوف تبكي عليك العيون »...
واستشهد حمزة متأثراً بإصابته الحرجة في قصف صهيوني داخل الشقة التي كان ينزح إليها في حي الصفطاوي، إذ كان يسكن قبل ذلك في اليرموك الذي تعرّض لدمار هائل خلال الحرب. وكان قد استشهد أيضاً أفراد عائلته في هذه الحرب، من بينهم شقيقه ووالده. وكان شقيقه الأوسط منشداً معه في الفرقة.
وهكذا يكون حمزة قد كتب ولحّن وغنى وقاتل من أجل نشيد فلسطيني لن يرحل أبداً، ويكون قد ترك لنا أغانيه كوصايا لكل الشهداء، لعلنا نقرأ في تلك الأغاني أغنية البلاد القادمة.
ونتذكر في رثاء حمزة أنّ الثقافة الفلسطينية باقية باللوحة والأغنية والكلمة والرواية، فها هم يقتلون الراوي والشاعر والمغني، لكنهم لم يغتالوا اللحن أبداً، ولا ما قاله هؤلاء الذين تنبأوا بأن الغياب حضور آخر أو كما قال الشاعر العربي عروة بن الورد: «أقسم جسمي في جسوم كثيرة ». فمع السلامة لمن قسم صوته على أسماء كل الشهداء... «مع السلامة يا مسك فايح »!