«اليوم التالي» من جهة المقاومة
بعد وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة عام 2016، ولاحقاً بعد الانسحاب من أفغانستان عام 2021 التي كان ثمنها أكثر من تريليونَي دولار وأكثر من ألفَي جندي أميركي قتيل (ليس واضحاً أي الحدثَين كان أكثر كارثية)، أَدركتْ الاستابلشمنت في واشنطن أن لا سياساتها الداخلية ولا تلك الخارجية باتت قادرةً على مراكمة القيمة كما في السابق. وكانت الأحقاد الإثنية التي انفجرتْ في أوكرانيا عام 2022 مؤشراً للكيفية التي يمكن لواشنطن أن تُعيد فيها تشكيل العالم أو على الأقل مواجهة خصومها ريثما تتضح الفلسفة السياسية الجديدة. طبعاً ليس هناك أحقاد إثنية «موجودة هناك» في أوروبا الشرقية، بل هي إنشاءات (constructs)، هناك قسم كامل في الجامعة الأميركية مهمته تأصيل الأحقاد الإثنية في أوروبا الشرقية لتصبح «علماً»، من داخل قسم التاريخ ومنهجياته الضد-ما-بعد-حداثية (وليس فقط «غير الصديقة للنظرية الفرنسية»).
بعد ما لاح في أوكرانيا، قَرّرتْ الاستابلشمنت في واشنطن الإجهاز على ما تبقّى من النيوليبرالية: مجيء ترامب وولادة مسألة «اليد العاملة البيضاء» بعد أزمة 2008 المالية، تبعه القضاء على الإنسان الاقتصادي (homoeconomicus) الذي وُلِد في القرن التاسع عشر وشَهِد أوجَه مع النيوليبرالية. تصبح حسابات ألمانيا الاقتصادية في علاقتها مع روسيا أمراً غير عقلاني بعدما كان ذلك جوهر العقلانية لعقود ("الاقتصاد، الاقتصاد، الاقتصاد"، يقول زيلينسكي مستنكراً). بعد عقود، بل قرنَين، من إعلاء شأن العقلانية الاقتصادية تُستعاد القبيلة المقاتلة. كنا نظنّ ذلك حكراً على الدول «المتخلّفة»، أو هكذا عُلّمنا في الجامعات. والمجتمعات التي كانت تتهمنا بكره الحياة، مقابل تعلّقها بها، باتت هي التي تدعو إلى القتال حتى آخر قطرة دم. طبعاً، التخلّص من الإنسان الاقتصادي يتمّ في الدول الطرفية، في أوكرانيا، إسرائيل، تايوان، الفلبين، التي تشجَّع على القتال، أما في الولايات المتحدة، فالإنسان الاقتصادي لا يزال موجوداً، وليس عليه أن يقاتل، كل ما على اليد العاملة البيضاء هناك أن تفعله هو صنْع «ذخيرة الديموقراطية» لتلك الدول لتقاتل دفاعاً عن الإمبراطورية في وجه الأعداء الإثنيين. الأمر نفسه جرى في السبعينيات وما بعدها: تمّ الترويج لـ«الدولة الصغيرة» في دول الأطراف، أما في الحاضرة الإمبريالية نفسها، فلم تكن الدولة صغيرة، بل هي التي كانت تخطّط للتطورات التكنولوجية وليس السوق، وهي التي كانت تَدعم بالميزانيات الهائلة هذه التطورات.
اكتشفتْ واشنطن أن في إمكانها ليس فقط تسليح الدولار والنظام المالي العالمي، بل أيضاً تسليح أقسامها الجامعية: الآن دور تفجير ما تمّتْ مراكمته حول دراسات الهولودومور في أوكرانيا وقسم دراسات أوروبا الشرقية في الولايات المتحدة. اكتشفتْ واشنطن أن ما راكمته من إنشاءات أكاديمية قادرة على إقناع شعوب بالقتال من أجلها تحت عنوان الدفاع ضد أعداء إثنيين «يريدون إخضاعنا منذ مئات السنين لأننا مختلفون». كل ما نراه في إسرائيل اليوم هو نتاج قسم دراسات الهولوكوست في الولايات المتحدة؛ حين نقول إن دراسات الهولوكوست هي نطاق "overresearched"، هذا ليس وصفاً إدارياً، هذا يدلّ على استثمار إمبريالي فائق في هذه الدراسات، ودراسات الهولوكوست هذه هي التي حان وقت تفجيرها بالتزامن مع القضاء على الإنسان الاقتصادي في إسرائيل. لو لم يكن هناك فائض فائق من دراسات الهولوكوست، لم يكن في إمكان الاستابلشمنت في واشنطن أن تدعوهم إلى تحمّل عدد قتلاهم في الحرب والتخلّي عن نموذج الإنسان الاقتصادي وما لذلك من تبعات على المجتمع الإسرائيلي في المستقبل (ذكرنا سابقاً أن الفائض الفائق في إنتاج دراسات حول الهولوكوست والعداء للسامية يمكّن واشنطن من إعادة تشكيل أوروبا خاضعة والإجابة عن «سؤال أوروبا» المركزي). كذلك الأمر مع الفائض الفائق من إنتاج دراسات في قسم التاريخ حول العلاقة الإثنية السياسية بين روسيا وشعوب أوروبا الشرقية (وهي الدراسات التي تُشير إلى أنه لا يمكن لإثنيات أوروبا الشرقية الوثوق بروسيا ولا بألمانيا، وأن خيارهم الأفضل هو التبعية للولايات المتحدة، رغم أن هناك كمّاً من النصوص الأكاديمية في الولايات المتحدة التي تَعتبر أن أوروبا الشرقية لا يمكنها أن تكون سوى فاشية، من ألمانيا الشرقية وبروسيا سابقاً وصولاً إلى موسكو، وبالتالي فإن التمسّك بالتبعية لواشنطن هو خيار إثني شبيه بالخيار السياسي للأكراد في منطقتنا، التشبُّه دون إمكانية الانتماء).
لكن مقابل موت الإنسان الاقتصادي، الذي هو موتٌ للنيوليبرالية وقرنَين من التحولات، لم تتمكّن الاستابلشمنت في واشنطن من بناء الإنسان الجديد (ومركز الإبادة حالياً هو غياب الإنسان القديم وعدم ولادة الإنسان الجديد، والدولة الصغيرة التي بشّرتْ بها النيوليبرالية سرعان ما أصبحتْ الدولة الراعي-الرسمي للإبادة، دولة من دون مسؤوليات تُبيد إنساناً غير محدَّد). بعيداً عن الخطابيات، ليس واضحاً ما إذا كان هناك إنسانٌ جديد ما بعد النيوليبرالي ما بعد الاقتصادي قيد الإنشاء. ومن الضروري ألا تقوم واشنطن وحدها بصياغة الإنسان الجديد، وهنا النقاش هو حول دور كل دولة وكل فرد في هذه العملية. ولذلك، إن محور المقاومة يجب أن يفكّر أيضاً في «اليوم التالي»، ليس فقط من أجل النقاش العام، بل هو من أجل توجيه قدراتنا بشكل أفضل وتحديد أهدافنا إذ يصبح من الواضح للأفراد ما هو مقابل التضحيات. مثلاً، ليس هناك مَنْ يتحدث العبريّة من جهتنا ليتوجّه إلى الشعب الإسرائيلي؛ الإعلام الأميركي مستفرِد بالشعب الإسرائيلي وليس هناك أي متحدّث باسمنا تجاهه، وهذا نقص غير مفهوم. من الضروري أن نحدّد ماذا نريد لشكل فلسطين المحتلة ما بعد التحرير وأن تتدخّل المقاومة بشكل أوضح في المعادلة الداخلية للسياسة الإسرائيلية، هي كانت دائماً جزءاً من هذه المعادلة ولكن يجب إيضاحها كي نتمكّن من تفكيك الجبهة الداخلية التي يَستفرد بها الأميركي (مثلاً: أن يكون شرط وقف إطلاق النار إسقاط حكومة نتنياهو).
لكن أيضاً ما هو شكل العالم الذي نريد؟ ما هو الإنسان ما بعد الاقتصادي النيوليبرالي الذي نريد؟ العالم الذي نريده هو عالم تتساوى فيه الدول في الثروة (فرْض ضرائب على الدول الثرية وليس فقط على الأفراد الأثرياء كما يريدنا قسم الاقتصاد في الجامعات الأميركية أن نَعتقد)، وعدم السماح لجامعات دولة واحدة (أو مجموعة من الدول الكبرى) من احتكار الأبحاث العلمية، لأن القيمة الاقتصادية هي إنشاء ما بين-أقسامي كما رأينا في مقالات سابقة، وقد رأينا كيف أن الجامعات الأميركية و«حريتها الأكاديمية» هي التي تَنسج الإبادة وعلوم الذكاء الاصطناعي التي رأينا ماهية وعدها «الديموقراطي»؛ الداتا التي لدى الولايات المتحدة حول كل فرد من شعوب العالم لا يمكن مقارنتها بالداتا المحدودة التي لدى إسرائيل، وستقوم واشنطن بتسليحها ضد كل فرد منا في المستقبل، واستخدام الذكاء الاصطناعي ضدنا في فلسطين ولبنان هو نسخ مصغّرة جداً عما ستنفّذه الولايات المتحدة. طبعاً، تريدنا واشنطن ألا نثق بالسيارات الكهربائية الصينية لأنها تتجسّس علينا. حقد واشنطن على إدوارد سنودن مفهوم، فهو كشف آليات عمل الوعود الإنسانية للتكنولوجيا، وبالتالي ما فعله أهم بكثير مما فعله جوليان أسانج. يمكننا أن نتحدث لاحقاً عن حق كل فرد في أن يكون عمله بحثياً، ليس فقط الحق في العمل بل في العمل البحثي باعتباره مثال العمل العقلاني (إنتاج العلوم وليس تطبيقها فحسب)، ويمكننا أن نتحدث لاحقاً عن ضرورة ألا يكون هناك دول كبيرة من حيث عدد السكان والمساحة.
إذاً، تمكّنتْ الولايات المتحدة من تغيير دينامياتها وتفجير ما راكمته من «علوم مرجعية» حول كل منطقة من العالم، لكن خصوم الولايات المتحدة لم يتمكّنوا من التحوّل بالسرعة نفسها لمواجهتها. لا يزالون يتعاطون مع النسخة القديمة من الولايات المتحدة. ذلك واضحٌ في السياسات الصينية والروسية والإيرانية. في أميركا اللاتينية، هناك أملٌ بدينامية جديدة: القارة الأميركية التي مَكّنتْ الغرب من السيطرة على العالم يوماً لا تزال تزخر بالديناميات، وديناميات الولايات المتحدة وحيويتها هما جزء من حيوية القارة الأميركية ككل، العالم الجديد ككل. القارة الأميركية ليست فقط مستقبل الغرب، بل هي أصله، ليس فقط من حيث الموارد الطبيعية التي كانت تُنهَب (للأسف معظم التركيز البحثي هو على هذه النقطة)، بل من حيث أن القارة الأميركية أمّنتْ لأوروبا الغربية فضاءً مجانياً للتجريب السياسي من دون تبعات ومتنفّساً لتبعات التجريب السياسي في أوروبا الغربية؛ هذا الفضاء لم يُتَح لأي إمبراطورية في التاريخ. ديناميات أوروبا الغربية مقرها ومستقرها في القارة الأميركية، والحيوية التي لا نزال نجدها في واشنطن اليوم (والتي مكّنتْها من إعادة تشكيل سياساتها واستكشاف إمكانية تسليح ما راكمته من معارف مرجعية) هي حيوية القارة ككل. كل ما ذكرته متوقّف اليوم على أبطال «الرضوان» في الجنوب؛ كل رصاصة يطلقونها تستقرّ في صدر مئتَي عام من تاريخ العالم وتاريخ الإنسان الإمبريالي، وكل عبوة يفجّرونها إنما هي دمارٌ لقسم الاقتصاد في الجامعات الأميركية الذي يهمّش هيكلياً فكرة المساواة في الثروة بين الدول، وكل صاروخ يرمونه إنما هو كشْفٌ لعورة قسم علوم الكومبيوتر في الجامعات الأميركية، باعتباره أداة الإمبريالية المفضّلة اليوم. أمّا أقدامهم التي أقبّلها، فهي تَدوس على قسم الفلسفة التحليلي في الولايات المتحدة الذي أراد أن يهمّشنا ويهمّش مناهجنا ما بعد الكولونيالية والنقدية مستقوياً بدعم الاستابلشمنت علينا. ما يَفعله أبطال «الرضوان» اليوم لا يَقتصر على لبنان وفلسطين: شعوب القارة الأميركية تَنتظر أيضاً (لاحقاً أكتب حول شعوب أميركا اللاتينية وكيف تَنظر إلى الحرب في بلادنا)، لنرى من بعدها قارة أميركية جديدة مليئة بالديناميات تَعمل فعلاً لتحرير العالم من آخر أشكال المَلَكية التي تمارسها واشنطن عليه (الملِك الذي بفضْل ثرواته المحتكَرة يحدّد مَنْ سيحيا ومَنْ سيموت على بُعْد آلاف الكيلومترات من أراضيه).
* باحث
بعد ما لاح في أوكرانيا، قَرّرتْ الاستابلشمنت في واشنطن الإجهاز على ما تبقّى من النيوليبرالية: مجيء ترامب وولادة مسألة «اليد العاملة البيضاء» بعد أزمة 2008 المالية، تبعه القضاء على الإنسان الاقتصادي (homoeconomicus) الذي وُلِد في القرن التاسع عشر وشَهِد أوجَه مع النيوليبرالية. تصبح حسابات ألمانيا الاقتصادية في علاقتها مع روسيا أمراً غير عقلاني بعدما كان ذلك جوهر العقلانية لعقود ("الاقتصاد، الاقتصاد، الاقتصاد"، يقول زيلينسكي مستنكراً). بعد عقود، بل قرنَين، من إعلاء شأن العقلانية الاقتصادية تُستعاد القبيلة المقاتلة. كنا نظنّ ذلك حكراً على الدول «المتخلّفة»، أو هكذا عُلّمنا في الجامعات. والمجتمعات التي كانت تتهمنا بكره الحياة، مقابل تعلّقها بها، باتت هي التي تدعو إلى القتال حتى آخر قطرة دم. طبعاً، التخلّص من الإنسان الاقتصادي يتمّ في الدول الطرفية، في أوكرانيا، إسرائيل، تايوان، الفلبين، التي تشجَّع على القتال، أما في الولايات المتحدة، فالإنسان الاقتصادي لا يزال موجوداً، وليس عليه أن يقاتل، كل ما على اليد العاملة البيضاء هناك أن تفعله هو صنْع «ذخيرة الديموقراطية» لتلك الدول لتقاتل دفاعاً عن الإمبراطورية في وجه الأعداء الإثنيين. الأمر نفسه جرى في السبعينيات وما بعدها: تمّ الترويج لـ«الدولة الصغيرة» في دول الأطراف، أما في الحاضرة الإمبريالية نفسها، فلم تكن الدولة صغيرة، بل هي التي كانت تخطّط للتطورات التكنولوجية وليس السوق، وهي التي كانت تَدعم بالميزانيات الهائلة هذه التطورات.
اكتشفتْ واشنطن أن في إمكانها ليس فقط تسليح الدولار والنظام المالي العالمي، بل أيضاً تسليح أقسامها الجامعية: الآن دور تفجير ما تمّتْ مراكمته حول دراسات الهولودومور في أوكرانيا وقسم دراسات أوروبا الشرقية في الولايات المتحدة. اكتشفتْ واشنطن أن ما راكمته من إنشاءات أكاديمية قادرة على إقناع شعوب بالقتال من أجلها تحت عنوان الدفاع ضد أعداء إثنيين «يريدون إخضاعنا منذ مئات السنين لأننا مختلفون». كل ما نراه في إسرائيل اليوم هو نتاج قسم دراسات الهولوكوست في الولايات المتحدة؛ حين نقول إن دراسات الهولوكوست هي نطاق "overresearched"، هذا ليس وصفاً إدارياً، هذا يدلّ على استثمار إمبريالي فائق في هذه الدراسات، ودراسات الهولوكوست هذه هي التي حان وقت تفجيرها بالتزامن مع القضاء على الإنسان الاقتصادي في إسرائيل. لو لم يكن هناك فائض فائق من دراسات الهولوكوست، لم يكن في إمكان الاستابلشمنت في واشنطن أن تدعوهم إلى تحمّل عدد قتلاهم في الحرب والتخلّي عن نموذج الإنسان الاقتصادي وما لذلك من تبعات على المجتمع الإسرائيلي في المستقبل (ذكرنا سابقاً أن الفائض الفائق في إنتاج دراسات حول الهولوكوست والعداء للسامية يمكّن واشنطن من إعادة تشكيل أوروبا خاضعة والإجابة عن «سؤال أوروبا» المركزي). كذلك الأمر مع الفائض الفائق من إنتاج دراسات في قسم التاريخ حول العلاقة الإثنية السياسية بين روسيا وشعوب أوروبا الشرقية (وهي الدراسات التي تُشير إلى أنه لا يمكن لإثنيات أوروبا الشرقية الوثوق بروسيا ولا بألمانيا، وأن خيارهم الأفضل هو التبعية للولايات المتحدة، رغم أن هناك كمّاً من النصوص الأكاديمية في الولايات المتحدة التي تَعتبر أن أوروبا الشرقية لا يمكنها أن تكون سوى فاشية، من ألمانيا الشرقية وبروسيا سابقاً وصولاً إلى موسكو، وبالتالي فإن التمسّك بالتبعية لواشنطن هو خيار إثني شبيه بالخيار السياسي للأكراد في منطقتنا، التشبُّه دون إمكانية الانتماء).
لكن مقابل موت الإنسان الاقتصادي، الذي هو موتٌ للنيوليبرالية وقرنَين من التحولات، لم تتمكّن الاستابلشمنت في واشنطن من بناء الإنسان الجديد (ومركز الإبادة حالياً هو غياب الإنسان القديم وعدم ولادة الإنسان الجديد، والدولة الصغيرة التي بشّرتْ بها النيوليبرالية سرعان ما أصبحتْ الدولة الراعي-الرسمي للإبادة، دولة من دون مسؤوليات تُبيد إنساناً غير محدَّد). بعيداً عن الخطابيات، ليس واضحاً ما إذا كان هناك إنسانٌ جديد ما بعد النيوليبرالي ما بعد الاقتصادي قيد الإنشاء. ومن الضروري ألا تقوم واشنطن وحدها بصياغة الإنسان الجديد، وهنا النقاش هو حول دور كل دولة وكل فرد في هذه العملية. ولذلك، إن محور المقاومة يجب أن يفكّر أيضاً في «اليوم التالي»، ليس فقط من أجل النقاش العام، بل هو من أجل توجيه قدراتنا بشكل أفضل وتحديد أهدافنا إذ يصبح من الواضح للأفراد ما هو مقابل التضحيات. مثلاً، ليس هناك مَنْ يتحدث العبريّة من جهتنا ليتوجّه إلى الشعب الإسرائيلي؛ الإعلام الأميركي مستفرِد بالشعب الإسرائيلي وليس هناك أي متحدّث باسمنا تجاهه، وهذا نقص غير مفهوم. من الضروري أن نحدّد ماذا نريد لشكل فلسطين المحتلة ما بعد التحرير وأن تتدخّل المقاومة بشكل أوضح في المعادلة الداخلية للسياسة الإسرائيلية، هي كانت دائماً جزءاً من هذه المعادلة ولكن يجب إيضاحها كي نتمكّن من تفكيك الجبهة الداخلية التي يَستفرد بها الأميركي (مثلاً: أن يكون شرط وقف إطلاق النار إسقاط حكومة نتنياهو).
لكن أيضاً ما هو شكل العالم الذي نريد؟ ما هو الإنسان ما بعد الاقتصادي النيوليبرالي الذي نريد؟ العالم الذي نريده هو عالم تتساوى فيه الدول في الثروة (فرْض ضرائب على الدول الثرية وليس فقط على الأفراد الأثرياء كما يريدنا قسم الاقتصاد في الجامعات الأميركية أن نَعتقد)، وعدم السماح لجامعات دولة واحدة (أو مجموعة من الدول الكبرى) من احتكار الأبحاث العلمية، لأن القيمة الاقتصادية هي إنشاء ما بين-أقسامي كما رأينا في مقالات سابقة، وقد رأينا كيف أن الجامعات الأميركية و«حريتها الأكاديمية» هي التي تَنسج الإبادة وعلوم الذكاء الاصطناعي التي رأينا ماهية وعدها «الديموقراطي»؛ الداتا التي لدى الولايات المتحدة حول كل فرد من شعوب العالم لا يمكن مقارنتها بالداتا المحدودة التي لدى إسرائيل، وستقوم واشنطن بتسليحها ضد كل فرد منا في المستقبل، واستخدام الذكاء الاصطناعي ضدنا في فلسطين ولبنان هو نسخ مصغّرة جداً عما ستنفّذه الولايات المتحدة. طبعاً، تريدنا واشنطن ألا نثق بالسيارات الكهربائية الصينية لأنها تتجسّس علينا. حقد واشنطن على إدوارد سنودن مفهوم، فهو كشف آليات عمل الوعود الإنسانية للتكنولوجيا، وبالتالي ما فعله أهم بكثير مما فعله جوليان أسانج. يمكننا أن نتحدث لاحقاً عن حق كل فرد في أن يكون عمله بحثياً، ليس فقط الحق في العمل بل في العمل البحثي باعتباره مثال العمل العقلاني (إنتاج العلوم وليس تطبيقها فحسب)، ويمكننا أن نتحدث لاحقاً عن ضرورة ألا يكون هناك دول كبيرة من حيث عدد السكان والمساحة.
إذاً، تمكّنتْ الولايات المتحدة من تغيير دينامياتها وتفجير ما راكمته من «علوم مرجعية» حول كل منطقة من العالم، لكن خصوم الولايات المتحدة لم يتمكّنوا من التحوّل بالسرعة نفسها لمواجهتها. لا يزالون يتعاطون مع النسخة القديمة من الولايات المتحدة. ذلك واضحٌ في السياسات الصينية والروسية والإيرانية. في أميركا اللاتينية، هناك أملٌ بدينامية جديدة: القارة الأميركية التي مَكّنتْ الغرب من السيطرة على العالم يوماً لا تزال تزخر بالديناميات، وديناميات الولايات المتحدة وحيويتها هما جزء من حيوية القارة الأميركية ككل، العالم الجديد ككل. القارة الأميركية ليست فقط مستقبل الغرب، بل هي أصله، ليس فقط من حيث الموارد الطبيعية التي كانت تُنهَب (للأسف معظم التركيز البحثي هو على هذه النقطة)، بل من حيث أن القارة الأميركية أمّنتْ لأوروبا الغربية فضاءً مجانياً للتجريب السياسي من دون تبعات ومتنفّساً لتبعات التجريب السياسي في أوروبا الغربية؛ هذا الفضاء لم يُتَح لأي إمبراطورية في التاريخ. ديناميات أوروبا الغربية مقرها ومستقرها في القارة الأميركية، والحيوية التي لا نزال نجدها في واشنطن اليوم (والتي مكّنتْها من إعادة تشكيل سياساتها واستكشاف إمكانية تسليح ما راكمته من معارف مرجعية) هي حيوية القارة ككل. كل ما ذكرته متوقّف اليوم على أبطال «الرضوان» في الجنوب؛ كل رصاصة يطلقونها تستقرّ في صدر مئتَي عام من تاريخ العالم وتاريخ الإنسان الإمبريالي، وكل عبوة يفجّرونها إنما هي دمارٌ لقسم الاقتصاد في الجامعات الأميركية الذي يهمّش هيكلياً فكرة المساواة في الثروة بين الدول، وكل صاروخ يرمونه إنما هو كشْفٌ لعورة قسم علوم الكومبيوتر في الجامعات الأميركية، باعتباره أداة الإمبريالية المفضّلة اليوم. أمّا أقدامهم التي أقبّلها، فهي تَدوس على قسم الفلسفة التحليلي في الولايات المتحدة الذي أراد أن يهمّشنا ويهمّش مناهجنا ما بعد الكولونيالية والنقدية مستقوياً بدعم الاستابلشمنت علينا. ما يَفعله أبطال «الرضوان» اليوم لا يَقتصر على لبنان وفلسطين: شعوب القارة الأميركية تَنتظر أيضاً (لاحقاً أكتب حول شعوب أميركا اللاتينية وكيف تَنظر إلى الحرب في بلادنا)، لنرى من بعدها قارة أميركية جديدة مليئة بالديناميات تَعمل فعلاً لتحرير العالم من آخر أشكال المَلَكية التي تمارسها واشنطن عليه (الملِك الذي بفضْل ثرواته المحتكَرة يحدّد مَنْ سيحيا ومَنْ سيموت على بُعْد آلاف الكيلومترات من أراضيه).
* باحث