تتميّز السفيرة الأميركية الحالية ليزا جونسون، بأنها أقل استعراضاً من الذين سبقوها إلى هذا المنصب. لكن ذلك، لا يلغي كثافة الأعمال التي تقوم بها على أكثر من صعيد. والسفيرة التي سبق لها أن خدمت في لبنان قبل أكثر من عشرين سنة، تتمتّع بخلفية أمنية – سياسية – اقتصادية. وهي صاحبة «لغة حازمة» بما يتعلق بمصالح بلادها. وعلى هذا الأساس، تتولى جونسون منذ أشهر عدة، وشخصياً، ملف السماح بإدخال شركة «ستارلينك» لخدمة الإنترنت إلى لبنان، دون أي قيود أو شروط.

لم يكن ملف «ستارلينك» جديداً، لكن سبق أن جُمّد البحث فيه ربطاً بخلافات داخل مجلس الوزراء، وتحفّظات الأجهزة الأمنية اللبنانية، والخسائر الاقتصادية المتوقّعة نتيجة انعدام قدرة الشركات المحلية على منافسة الشركة الأميركية العملاقة.
لكن، بعد اندلاع الحرب على غزة، تسارع النقاش والضغط على الحكومة من أجل إقرار السماح لـ«ستارلينك» العمل بحجة استفادة لبنان من هذه الخدمة في حال توسّعت الحرب إلى داخله وحصل انقطاع للاتصالات.
أمنياً، سبق أن تمّ تشكيل لجنة من الفرق الفنية العاملة في الأجهزة الأمنية اللبنانية، وقد سجّلت اللجنة اعتراضها على تشريع الخطوة كونها تلغي الرقابة الأمنية المحلية بشكل كامل. وطالبت اللجنة الحكومة بفرض ضوابط لمراقبة عمل الشركة. لكنّ إدارة الشركة رفضت الأمر بصورة مطلقة، بل رفضت أصل النقاش فيه.
الجديد، هو سعي رئيس الحكومة نجيب ميقاتي للاستجابة لضغط السفيرة الأميركية، وهو طلب من الأمين العام لمجلس الوزراء القاضي محمود مكية إدراج الملف من جديد في جلسة الحكومة التي حُددت في 14 حزيران الجاري. ومع تعثّر المحاولة، يواصل الرئيس ميقاتي الضغط، مستفيداً من مساعٍ يقوم بها وزير الاتصالات جورج قرم وفريقه، لإقرار الخطوة رسمياً، علماً أن قرم سبق أن طلب إدراج البند على جدول أعمال جلسة الحكومة نهاية تشرين الثاني من العام الماضي.
ويسعى قرم إلى التذرع بأنه يجب الموافقة على تقديم خدمة الإنترنت بشكل مؤقت، والسماح بإدخال أجهزة «ستارلينك» لصالح عدد من السفارات الغربية وبعض المنظمات الدولية في لبنان، ولو أنه طلب موافقة الأجهزة الأمنية اللبنانية.
ولكن عدم الوصول إلى نتيجة، جعل واشنطن ترفع من مستوى الضغط، ومنذ الشهر الماضي، طلبت السفيرة جونسون اجتماعات عاجلة مع رئيس الحكومة، وطلبت منه «إقرار الموافقة رسمياً على عمل الشركة». ثم قامت بجولة على رؤساء الأجهزة الأمنية الرسمية للضغط عليهم لإسقاط تحفظاتهم على المشروع، ويمكن القول بأنها نجحت في إقناع بعض قادة الأجهزة بتغيير مواقفهم. فيما يقوم فريق من السفارة بممارسة الضغط المباشر على شركات الاتصالات في لبنان من أجل أن تمارس بدورها الضغط على الحكومة.
وقبل نحو أسبوعين، تولّت السفيرة الأميركية ليزا جونسون الأمر مباشرة، بعدما عجز مندوبو الشركة عن إنجاز المهمة. وقد أبلغت السفيرة إدارة الشركة الأميركية المملوكة من إيلون ماسك، بأنها ستقوم بما يلزم مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومع وزير الاتصالات جوني القرم، من أجل إطلاق يد «ستارلينك» في لبنان وفق القواعد التي لا تسمح بأن يكون للأجهزة اللبنانية أي قدرة على الرقابة، وألّا يكون بإمكان الشركات المحلية المنافسة التجارية.
سبق لأجهزة «ستارلينك» أن دخلت إلى لبنان بشكل غير شرعي. وحين انطلق النقاش بشأن خطّة الطوارئ، طلبت الأجهزة الأمنية في لبنان من الشركة وقف تشغيل نحو 850 جهازاً في لبنان. وحتى الآن، تصرّ الأجهزة الأمنية على منع بيع أجهزة «ستارلينك» في لبنان، لأنها تُعدّ خارج سيطرة الدولة، إذ إن العلاقة تكون حصرية بين المشترك والمُزوّد بالخدمة ويصعب على القوى الأمنية إجراء عمليات الرقابة من دون إذن الشركة المُزوّدة، فـ«داتا» الاستهلاك لا تمرّ من خلال الشبكة المحلية ولا يمكن مراقبتها أو متابعتها. وتقول مصادر مطّلعة، إن مديرية الاستخبارات في الجيش اللبناني تصرّ على رفض عمل الشركة في لبنان، بينما تشير المصادر إلى أن السفيرة الأميركية ستخوض معركة إقناع الأجهزة الأمنية بالتراجع عن الموقف الرافض لمصلحة الموافقة على بيع أجهزة ستارلينك في لبنان.

منافسة غير عادلة مع الشركات اللبنانية

خطة التسلّل لشركة «ستارلينك» إلى لبنان، بدأت عبر خطة الطوارئ التي أطلقتها الحكومة اللبنانية قبل بضعة أشهر تحسّباً لتصعيد الكيان الصهيوني هجومه على لبنان واندلاع ما يُسمّى «حرباً شاملة». فلم تتقدّم «ستارلينك» من السلطات المحلية المختصّة، بطلب الترخيص لها ببيع أجهزتها في لبنان، بل سلكت طريقاً موارباً وقدّمت هبة عبر منظمة غير حكومية اسمها «P Foundation» لإدخال 150 جهازاً لتقديم خدمة الإنترنت بواسطة الأقمار الاصطناعية الخاصة بستارلينك، لمدة 3 أشهر على سبيل الإعارة. لكنّ النقاش سرعان ما انقلب إلى حصول الشركة على قرار في مجلس الوزراء بموجبه تحصل الشركة على ترخيص يتيح لأجهزتها العمل في سياق خطّة الطوارئ مقابل أن يتم السماح لها ببيع 15 ألف جهاز... وتلبية للضغوط الأميركية، اقترح وزير الاتصالات جوني القرم على مجلس الوزراء، فتح الباب للعموم أمام استيراد أجهزة «ستارلينك» للاتصالات استثنائياً لفترة ثلاثة أشهر «قابلة للتمديد» تمهيداً للتوصل إلى اتفاق دائم مع الشركة أو أي مشغّل آخر لتأمين خدمة الإنترنت عبر السواتل الصناعية.

(من الويب)

انصياع لبنان لإملاءات السفيرة الأميركية، ستكون له عواقب أمنية وتجارية وقانونية. فالسماح لهذه الشركة، بالعمل في لبنان استناداً إلى قرار في مجلس الوزراء، هو بمثابة ترخيص امتياز يتيح لها استعمال «الهوا» اللبناني لتبادل الداتا والمعلومات بين أقمار الشركة الاصطناعية والمستهلك المحلّي، اذ بمجرّد السماح لأي شركة، بما فيها «ستارلينك»، أن تقدّم خدمة الإنترنت بواسطة الأقمار الاصطناعية في لبنان، ستستحوذ ضمناً على حقوق استعمال التردّدات والبث والتشغيل والبيع التي مُنحت لشركتَي الخلوي. أي إن هذا الترخيص مماثل للتراخيص التي بحوزة شركتي «ألفا» و«تاتش» اللتين تستعملان «الترددات» من أجل نقل المكالمات الخلوية، إضافة إلى الداتا أو المعلومات التي يستقبلها ويرسلها حاملو الخطوط الخلوية في ما بينهم، ومع الخارج أيضاً. وستصبح هذه الشركة أكبر منافس لهما، ولأوجيرو أيضاً.
ترخيص كهذا، لو صدر بمرسوم، يُعدّ مخالفة جسيمة للدستور. أما صدور القانون، فله موجبات وشروط متعلقة بالأهمية الاستراتيجية لوجود رخصة ثالثة، فضلاً عن الجدوى الأمنية، والتجارية، وكذلك آلية إصدار التراخيص والمناقصات التي يجب إجراؤها.
في الشق التجاري، ستصبح المنافسة غير عادلة في ظل وجود «ستارلينك» في لبنان، كونها تقدّم خدمة غير تقليدية وسريعة جداً عبر ربط الجهاز المشترك بالأقمار الاصطناعية. وبالتالي لن يستخدم المشترك بواسطة هذه الأقمار الاصطناعية، أي بنية تحتية في لبنان، ولن يستهلك الإنترنت التي تستقدمها أوجيرو نيابة عن وزارة الاتصالات وتوزّعها على سائر الشركات، ولن يُنفق أي قرش على أي خدمة أو سلّة في لبنان. حتى إن «ستارلينك» بدأت تبيع هواتف خلوية خاصة بشبكتها المرتبطة بالأقمار الاصطناعية. بمعنى آخر، كل من يرتبط بهذه الشركة سينتقل إلى شبكة خاصة بقدرات هائلة. وبالتالي ستكون شركتا الخلوي في لبنان، وأوجيرو، عرضة للهلاك التجاري.
وبحسب مصادر مطّلعة، فإن سعر الخدمة إلى جانب السرعة، سيشكّلان عاملين مهمين في هذه المنافسة. فمن جهة تقدّم «ستارلينك» الخدمة بشكل سريع، إنما بكلفة مرتفعة، وهناك تسريبات من الشركة نفسها، أنها ستبلغ نحو 60 دولاراً شهرياً (وزير الاتصالات يقول إنها ستراوح بين 25 دولاراً و30 دولاراً). ومن جهة ثانية، تقدّم الشركات اللبنانية خدمات أقلّ بكثير لجهة السرعة ولجهة الكلفة. وهذا يعني أن «ستارلينك» ستحصد أولئك الذين يهتمون بسرعة عالية وجودة كبيرة مقابل كلفة مالية أعلى، لذا تقول المصادر إن هامش المنافسة العادلة للشركات المحلية يعني أن سعر ستارلينك لا يجب أن يزيد على 20 دولاراً شهرياً، وذلك إذا تخطّت العوائق الدستورية والقانونية في الترخيص.
سعر الخدمة إلى جانب السرعة سيشكّلان عاملين مهمين في هذه المنافسة


في هذا العالم، لم يعد الجزء الأساسي من إيرادات الاتصالات مصدره المكالمات الهاتفية، بل يتركز الجزء الأكبر من استهلاك «الداتا»، أي إن الاتصال الهاتفي يتأمّن بواسطة استهلاك الداتا عبر تطبيقات مختلفة مثل «واتساب» و«فايبر» وسواهما، فضلاً عن استهلاك الداتا من أجل الوصول إلى تطبيقات أخرى لتحميل الفيديو أو مشاهدته أو لتحميل الصوت وسماعه، وممارسة الألعاب أونلاين... وبالتالي صارت إيرادات «ألفا» و«تاتش» تعتمد على وجود شبكة إنترنت ثابتة وسريعة. وهذا يعني أن محور الترخيص باستعمال الترددات يتمركز حول استهلاك «الداتا». ويزيد استهلاك «الداتا» أو يتدنى ربطاً بالسرعة وبجودة الخدمة. أي إن المعادلة بين السرعة والسعر لن تكون صعبة على «ستارلينك» حسمها، ولا سيما أن الشركة ستدخل إلى السوق المحلية بكلفة تبلغ مليوناً ونصف مليون دولار سنوياً، وفق ما صرّح بها سابقاً وزير الاتصالات جوني القرم.
هذه الطريقة في التعامل مع القوانين، لا تعني إلا موت «تاتش» و«ألفا» اللتين تملكان محفظة من 4 ملايين مشترك، وتصدّعات في «أوجيرو» التي تملك محفظة من 400 ألف مشترك ويفترض أن تملك رخصة ثالثة للاتصالات إذا قُدّر تحويلها إلى «ليبان تيليكوم» تطبيقاً للقانون 431. قدرة ستارلينك على تقديم خدمة الإنترنت بسرعة هائلة وبنوعية ذات جودة أعلى من خلال اتصال الزبون مباشرة بأقمارها الاصطناعية، ستضع السيادة اللبنانية خارج هذا الإطار. والسيادة لا تعني الشقّ الأمني بل تعني حقوق استعمال تردّدات الاتصال في لبنان بشروط استنسابية يحدّدها القرم وميقاتي تحت الضغط الأميركي وضغوط سائر السفارات. القرم وميقاتي سيقدّمان هذه الحقوق، التي تؤجّر بمبالغ هائلة في كل دول العالم، مجاناً، لشركة واحدة بلا أي مناقصة وبلا دفتر شروط، ولن تخضع الأسعار للدولة اللبنانية، ما يعني أن قدرتها التنافسية ستكون مرتفعة جداً وستكون لها أفضلية في أي منافسة.



680 مليون دولار حجم سوق لبنان
بحسب أرقام وزارة الاتصالات، فإن حجم السوق اللبنانية من الإنترنت المُقدّم قد بلغ 460 مليون دولار عبر شركتي «ألفا» و«تاتش»، بينما بلغ عبر «أوجيرو» نحو 19500 مليار ليرة لبنانية، أي ما يعادل 220 مليون دولار على سعر صرف السوق.
يشار إلى أن لبنان يحصل على الإنترنت عبر كابليْن بحرييْن: «قدموس» القادم من قبرص، و«IMEWE» الذي يمتدّ على 13 ألف كيلومتر بين الهند وفرنسا، واشترك فيه لبنان في عام 2009. وتقع على هذا الأخير، الحمولة الأساسية لتقديم خدمة الإنترنت في لبنان، والكابل الأول يعمل رديفاً له. وتقدّم هذه الشبكة خدمة الإنترنت لكل لبنان، إلا أن ما نوقش سابقاً بشأن خطّة الطوارئ مردّه إلى أن هناك احتمالاً لانقطاع الخدمة إذا تعرّض أي سنترال أساسي في لبنان للقصف الإسرائيلي، ما يقطع الخدمة عن مرافق أساسية مثل المستشفيات والوزارات والدفاع المدني والصليب الأحمر وسواها.


ماسك فعّال ضد أعداء أميركا؟
بعد توجيه العدو ضربات إلى قطاعَي الاتصالات والإنترنت في قطاع غزة، سارعت منظمات دولية تتقدّمها الأمم المتحدة إلى المطالبة بالسماح لشركة «ستارلينك» تقديمَ خدمات طارئة. لكنّ حكومة العدو رفضت ذلك، واعتبرت أن المقاومة سوف تستفيد من العمل لأغراض الدعاية.
وقد أبلغت حكومة العدو إدارة الشركة بأنها «ستعطي الموافقة على أساس كل حالة على حدة. مع ضرورة الحصول مسبقاً على تصريح فردي من قبل قوات الأمن، وأن الإذن يُعطى فقط للكيانات غير المعادية لإسرائيل».
استجابت إدارة الشركة للطلبات الإسرائيلية، ولم تمارس واشنطن أي ضغط على حكومة العدو لإعطاء الإذن بالعمل. لكنّ الصورة تصبح مغايرة في أمكنة أخرى.
ففي 16 أيلول 2022، اندلعت احتجاجات داخل إيران على خلفية موت إحدى المواطنات في مركز للشرطة. وبعد أسبوع، طلبت الإدارة الأميركية من شركات الاتصالات الأميركية العمل في إيران مع إعفاء من العقوبات. ثم أعلن إيلون ماسك أن «خدمة ستارلينك صارت مفعّلة الآن، وهو ما أظن أن الحكومة الإيرانية لن تدعمه». وفي 3 تشرين الأول 2022، تحدّثت صحيفة «وال ستريت جورنال» عن وصول «أطباق ستارلينك» إلى إيران عبر قوارب آتية من دبي. وذلك عقب حملة سرية وشبكة معقّدة من الناشطين الذين عملوا على توفير الإنترنت غير الخاضع للرقابة للمتظاهرين الإيرانيين.
أما في أوكرانيا، فمنذ أوائل عام 2022، لعبت «ستارلينك» دوراً حاسماً في الحرب ضد روسيا. وقالت «نيويورك تايمز» إنه «لا يمكن المبالغة في أهمية "ستارلينك" للجهود العسكرية الأوكرانية. فقد مكّنت الجنود من التواصل بفعّالية وجمع المعلومات الاستخباراتية وإجراء مهمات عبر طائرات بدون طيار للمراقبة والضربات الهجومية على حد سواء».