لم يستثنِ الانهيار الاقتصادي أحداً من تداعياته. لكن أكثر من طالهم هم موظفو القطاع العام و«أبناء الدولة»، كما يُطلق اصطلاحاً على المنتسبين إلى الأسلاك العسكرية والأمنية. وإذا كانت الدولة قد تخلّت عن «أبنائها»، فقد حاول «آباؤهم» التخفيف عنهم قدر المستطاع. هكذا، مثلاً، فرضت المديرية العامة للأمن العام رسماً قدره نحو خمسة ملايين ليرة على كل معاملة مستعجلة لتدفع ثلاثة رواتب شهرياً لعناصرها. وهكذا، أيضاً، فتحت قيادة الجيش (بعيداً عن تحفّظات كثيرة عن أدائها) باب الهبات والتبرعات لدفع 100 دولار شهرياً لعسكريّيها وأمّنت لهم طبابة بنسبة 100%. وهكذا، أيضاً وأيضاً، تحاول المديرية العامّة لأمن الدولة تسيير شؤونها من بيع ضبّاطها مسدسات وبنادق (مع التحفّظ عن هذا الأداء أيضاً) توقع على جداول شرائها (End User) رئاسة الحكومة بأسعار مخفضة من بلد المنشأ، ليبيعها هؤلاء في السوق السوداء بأكثر من ستة أضعاف ما دفعوه.وحدها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، بين بقية الأسلاك العسكرية والأمنية، لم يكن لها شرف محاولة المساعدة لعناصرها الذين تعدّ أوضاعهم الأسوأ بين المنتسبين إلى الأسلاك الأمنية والعسكرية، لجهة الرواتب والطبابة والمساعدات الاجتماعية. فتركتهم لتدبير أمور معيشتهم بأنفسهم، بالعمل سائقي أجرة وعمّال «دليفري» و«فاليه باركينغ»، مريقين ماء وجه آخر ما تبقّى من «هيبة» للبزة العسكرية. ومنذ بدء الانهيار الاقتصادي، أواخر عام 2019، لم تُسجّل للمدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، باستثناء العرس الأسطوري الذي أقامه لابنه، أيّ محاولة ليقي عناصره ذلّ الجوع والعوز... قبل أن تتفتّق عبقرية مدير قوى الأمن عن فكرة غير مسبوقة، تقوم على «تأجير» عسكريي قوى الأمن مقابل 81 ألف ليرة للعنصر يومياً، فيما تبلغ أجرة الساعة الواحدة للعاملة المنزلية 5 دولارات! وبعدما كان عناصر هذا الجهاز يُذلّون بتوزيعهم لمرافقة زوجات الضبّاط إلى «الشوبينغ» وتوصيل أولادهم إلى المدارس والجامعات، أو توزيعهم «حصصاً» لمرافقة الشخصيات السياسية والمحظيّين من الإعلاميّين والفنيّين، قرّر عثمان أن يتيح عناصره لـ «العموم» تحت عنوان «خدمات مأجورة»! هكذا بات في إمكان أيما شخص أن «يستأجر» بـ 81 ليرة يومياً، بل وحتى ضابطاً مهما بلغت رتبته بأعلى من ذلك بقليل!
تتيح «الخدمات المأجورة» استئجار ضبّاط أيّاً كانت رتبهم وفقاً «لتسعيرة» رسمية


فتحت عنوان «خدمات مأجورة - حفظ أمن ونظام»، وعلى طريقة شركات الـ«كاترينغ»، يوفّر الموقع الرسمي لقوى الأمن الداخلي للراغبين إمكانية استئجار عسكريين في مجالات عدة، من بينها «تنظيم السير في مواقف خارجة عن نطاق الطرقات العامة»، في المناسبات الخاصة، كحفلات الزواج مثلاً، ولـ «حفظ الأمن والنظام على مداخل الأماكن الخاصّة المسوّرة كالملاعب الرياضية والمعاهد والمدارس، في مناسبة حفلات تقام فيها، وقاعات المحاضرات والمسارح ودور السينما»، وكذلك في «ميدان سباق الخيل وفي الحفلات الرياضية أو المباريات الرياضية».
ورغم تأكيد مصادر في قوى الأمن الداخلي أنّ بدل «تأجير» العسكري يبلغ 81 ألف ليرة يومياً، إلّا أنّ التسعيرة المعروضة على الموقع الإلكتروني للمديرية تقلّ عن ذلك. إذ يشير الموقع إلى أنّ «الرسم المتوجب على (تأجير) الضابط مهما كانت رتبته: 18% من الحد الأدنى للأجور، وعلى الرتيب مهما كانت رتبته: 12% من الحدّ الأدنى للأجور، وعلى العريف أو الدركي أو الشرطي: 10%، مع الإشارة إلى أنّ «الأدنى الرسمي للأجور النافذ حالياً يبلغ 500 ألف ليرة. وبالتالي، إنّ هذا يعني أنّ «تسعيرة» الضابط لا تتعدّى 90 ألف ليرة يومياً، والرتيب 50 ألف ليرة والشرطي 50 ألف ليرة»، ما يثير تساؤلات عن سبب الاختلاف بين «التسعيرة» الرسمية وتلك التي تُدفع فعلياً. علماً أنّ العسكريين «المؤجّرين» لا يستفيدون من أي نسبة من هذا البدل الضئيل، إذ يشير الموقع إلى أنّ «العائدات عن كل خدمة مأجورة تُدفع بموجب شك مشطوب أو شك مسحوب على مصرف لبنان» لحساب المديرية.
كذلك توفّر المديرية خدماتها للراغبين في إقامة «حفلة أو مباريات رياضية» وذلك «مهما بلغ عديد القوة الأمنية المشتركة مقابل 80% من الحد الأدنى للأجور»، وعن كل حفلة في ميدان سباق الخيل مهما بلغ عديد القوة الأمنية المشتركة مقابل 300% من الحد الأدنى للأجور».
هكذا، «عزيزي المواطن»، إذا كُنتَ أو كُنتِ بحاجة إلى «خدمة تنظيم السير» أو «حراسة» المنزل أو إلى مرافق شخصي أو مجموعة عناصر مرافقة، فما عليكَ وعليكِ إلّا التواصل مع قوى الأمن الداخلي التي تسهر على خدمتكم وخدمتكنّ!