في أيام الإفلاس، تقوم الحكومات برسم سياسات اقتصادية للنهوض. لكن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قرّرت السير بالعكس وأقرّت مشروع موازنة لعام 2024 مثقلاً باستحداث الضرائب والرسوم وزيادة ما كان منها، بهدف زيادة الإيرادات وتقليص العجز. بهذا المعنى، أتى مشروع الموازنة من دون أي رؤية اقتصادية في هذا المشروع الذي «يصب في خطة التعافي» وفق بيان وزير المال يوسف الخليل أول من أمس.

أرقام المشروع ليست واقعية ولا شيء يضمن أن تكون قابلة للتحقّق. فقد بلغت قيمة النفقات 295.1 تريليون ليرة (3.3 مليارات دولار) مقابل إيرادات بقيمة 277.9 تريليون ليرة (3.1 مليارات دولار)، أي أن العجز يبلغ 17.2 تريليون ليرة (193 مليون دولار). من هذا المنطلق، رفضت لجنة المال والموازنة في كل اجتماعاتها المخصصة لمناقشة مشروع موازنة 2024، الاستحداثات الضريبية على المواطنين والشركات، أي تلك التي أضيفت ولم تكن موجودة قبلاً. واستندت اللجنة إلى المادة 82 من الدستور التي تجيز إقرار الاستحداثات الضريبية بقانون خاص يفنّد تفاصيلها وأسبابها. كذلك، رفضت اللجنة بعض التعديلات الضريبية العشوائية غير المستندة إلى أي معايير.
هذه التوصيات والتعديلات التي أقرّت في اللجنة لن تتحقّق إن لم تؤمّن الكتل النيابية نصاب الهيئة العامة لمجلس النواب، للتصويت على التعديلات. إذ إن مقاطعة جلسة الهيئة من الكتل الرافضة للتشريع في ظل الفراغ الرئاسي، في موازاة انقضاء المهلة المحدّدة دستورياً لغاية نهاية شهر كانون الثاني المقبل، سيسمح لمجلس الوزراء بإصدار الموازنة عبر مرسوم، سنداً إلى المادة 86 من الدستور، أي بنسختها الواردة من مجلس الوزراء والمثقلة بالتعديلات الضريبية.
خلال النقاش في الموازنة، وَقَعَت لجنة المال والموازنة على مجموعة من الضرائب المستحدثة. منها ما يتعلق برخص الاستثمار في القطاع السياحي، ومنها أيضاً ما يتعلق بمعاملات تمرّ في وزارة العمل، وأخرى في وزارة الشباب والرياضة، ورابعة في وزارة التربية حيث وُضع رسم 50 ألف ليرة على كل تلميذ في المدارس الخاصة. وعلى سبيل المثال، فُرض رسم بقيمة 170 ألف ليرة مقابل كل طلب بدل من ضائع عن الشهادة الرسمية، و250 ألف ليرة مقابل طلب معادلة الشهادة الجامعية أو الإذن بمتابعة الدارسة، و100 ألف ليرة لطلب صور شهادات طبق الأصل وغيرها. واستُحدث رسم جديد للحصول على خدمة سريعة في الإدارات العامة لقاء تخليص المعاملات بسرعة، وهو ما سيدفع البعض إلى «ابتزاز» المواطنين لدفعهم إلى شراء الخدمة، والأهم أنه سيشرّع مبدأ الرشوة. كما وُضع رسم على الاستهلاك الداخلي للمشروبات الغازية ومشروبات الطاقة بقيمة 15 ألف ليرة عن كل ليتر، وفُرضت رسوم على عدد كبير من السلع المستوردة، غذائية منها وطبية، أو حاجات يومية، ما سيدفع التجّار إلى زيادة أسعار منتجاتهم لتحميل المستهلك هذه الأكلاف.
هكذا، وضعت الحكومة رسوماً على نفس المواطن، ووصل الأمر إلى فرض رسوم على نعوش الموتى، واقتطاع نسبة 3% من وديعة المتوفّى كرسم انتقال. من جهة أخرى، تحتوي الموازنة على زيادات وتعديلات ضريبية غير منطقية، ومنها ما يطيح بمبدأ العدالة الضريبية. فزادت الضريبة على براءات الاختراع والملكيات الفكرية 40 مرة، ورسوم السير بنحو 10 أضعاف، والطابع المالي 40 ضعفاً، فيما وصلت الزيادة على المشروبات الكحولية منها ما هو منتج محلياً، بنحو 180 ضعفاً. وارتفعت الرسوم المتعلقة بالسجل التجاري نحو 25 ضعفاً، وارتفعت الغرامات المتعلقة بالعقارات والتأخير بالدفع.

الموازنة كما أتت من مجلس الوزراء مثقلة بالضرائب وبلا رؤية اقتصادية للنهوض


لم تكتف حكومة ميقاتي بذلك، بل رفعت النسب والشطور على ضريبة الدخل على الرواتب والأجور وفق معادلة غير مفهومة. ففيما أبقت معدّل الضريبة نفسه المعتمد في موازنة 2023، شرعت وزارة المال في تعديل سعر الصرف الذي ستحتسب الضريبة على أساسه. ولاحتساب الضريبة، يفترض تحويل الراتب الى الليرة الللبنانية على أساس 40% من سعر الصرف المحدّد على منصّة صيرفة عند الاستحقاق، لتحوّل بعدها الضريبة المحتسبة إلى العملة التي جرى فيها دفع الرواتب على أساس سعر صرف منصة صيرفة. أما ضريبة الدخل، فتساوى فيها المواطن والمتقاعد والتاجر وصاحب رأس المال مع إمكانية تعديل الحكومة لهذه الشطور متى شاءت وبقرار فردي من دون العودة إلى مجلس النواب.
حتى الساعة، تصرّ لجنة المال على تعديلاتها، وهي أطلقت نقاشاً داخل الكتل النيابية تجده ضرورياً لناحية تأمين نصاب جلسة الهيئة العامة لإقرار تعديلات بنيوية، منها:
- رفض تشريع فوضى الإنفاق من خارج اعتمادات الموازنة أو الاعتمادات الاستثنائية (كإنفاق 1.125 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة من حساب خاص في مصرف لبنان).
- رفض الاستدانة من دون سقف ومن دون العودة إلى المجلس النيابي.
- رفض الصلاحيات الاستنسابية للقروض المدعومة من مصرف لبنان.
ومنها أيضاً التحفّظ على الفصل الضريبي المخالف للدستور على النحو الآتي:
- رفض استحداث ضرائب جديدة في متن الموازنة وتعديل الشطور والسعي لاعتماد معيار موحّد لتحديد سعر الصرف من دون استثناءات.
- تعليق مواد تزيد الغرامات سنوياً 40 ضعفاً من دون تحديد معيار أو نوعية أو حجم المخالفة.
- الاعتراض على عدم أخذ وحدة المعيار بالاعتبار والظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة التي لا يتحمل مسؤوليتها اللبنانيون.
- إلغاء سلّة الزيادات على الغرامات التي وضعتها الحكومة في موازنة 2024.
- رفض استحداث رسوم جديدة في الوضع الاقتصادي والنقدي المنهار واحتجاز أموال الناس في المصارف ولأن الضرائب والرسوم تفرض بقانون خاص لا في الموازنة.



هل يُحدّد سعر الصرف في الموازنة؟
تدور نقاشات في لجنة المال والموازنة حول سعر الصرف بشكل أساسي. رئيس لجنة الموازنة إبراهيم كنعان، يشير إلى أن سعر الصرف الذي احتُسبت على أساسه الرواتب والأجور في مشروع الموازنة يساوي 9000 ليرة لكل دولار، في مقابل احتساب الضرائب والرسوم على سعر صرف يبلغ 89 ألف ليرة. لذا، طلبت اللجنة الاستماع إلى حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري. وعندما حضر منصوري أشار إلى أنه ليس هو الجهة المعنية بتحديد سعر الصرف. وبحسب نواب كانوا حاضرين في الجلسة فإن منصوري قال إن «سعر الصرف هو مسألة حكومية وليست مرتبطة بمصرف لبنان»، لافتاً إلى أن معالجة هذا الأمر تتطلب العودة إلى قانون النقد والتسليف الذي يحدّد آليات تسعير الليرة مقابل العملات الأجنبية. لكنّ مصادر اللجنة تقول إن منصوري يرغب في أن يحدّد سعر صرف يبلغ 89 ألف ليرة في ميزانية مصرف لبنان وميزانيات المصارف.
حتى الآن لم يُتفق على قواعد تحديد سعر الصرف بعد، إذ إن هناك ميلاً لدى النواب ألا تُعتمد الدولرة الكاملة للضرائب والرسوم وإهمال العملة المحلية (الليرة)، بل يجري البحث عن معايير أخرى لاحتساب الضرائب والرسوم.


عون مهتمّ برواتب القطاع العام
قالت مصادر مطّلعة إن رئيس الجمهورية السابق ميشال عون مهتمّ برواتب القطاع العام التي ما زالت متدنّية جداً كما وردت في مشروع موازنة 2024، وإنه طلب من الفريق الذي كان يعاونه أيام رئاسته، أن يقدّم له عرضاً عن هذه المسألة وكيفية معالجتها. وبحسب ما ورد في مشروع الموازنة الذي أحالته الحكومة إلى مجلس النواب، فإن كلفة الرواتب والأجور وسائر المخصّصات المرتبطة بها، بلغت 29654 مليار ليرة (334 مليون دولار) أي ما يعادل 10% من مجموع النفقات في الموازنة.
ما يجب قوله للرئيس عون، إن الاهتمام بتصحيح رواتب القطاع العام يتطلّب إقرار مشروع ينسجم مع تضخّم الأسعار التي ازدادت منذ نهاية عام 2019 حتى تشرين الأول 2023 بنحو 50 ضعفاً، أبرزها زيادة أسعار المواد الغذائية والأساسية وزيادة الإيجارات السكنية.