انهالت على لبنان، مطلع تموز، جملة من المواقف صادرة عن أطراف أوروبية (البرلمان الأوروبي، سفيرة فرنسا المُغادرة، رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي) أقلّ ما يُقال فيها إنها خارجة بفظاظة ووقاحة عن المألوف. ولسنا هنا بصدد مُناقشة النصوص والخطاب رغم المادة الدّسمة، بل نرى بالمناسبة ضرورة اتخاذ موقف.أولاً، لا قيمة قانونية لقرار البرلمان الأوروبي ولا فاعلية إجرائية له. فللمرة الألف، الاتحاد الأوروبي منظّمة سياسية لا منظمة أُمميّة. وكل ما تبقّى «انتحال صفة». وحدود صلاحيات البرلمان الأوروبي، على ضآلتها، لا تتخطى حدود الاتحاد.
ثانياً، تُشكل صياغة «القرار» وبنوده الفضفاضة بدءاً من البند الأول (الخاص بالحياة السياسية اللبنانية) وصولاً إلى وقاحة الكلام عن النازحين، تدخلاً سافراً في الشؤون السيادية للبنان. كما أنها خرق لمبدأ مؤسّس للعلاقات الدولية في إطار منظمة الأمم المتحدة، أي مبدأ سيادة الدول.
ثالثاً، إضافة، تفضح هذه الصياغة هوية من أشرف عليها من جهة وتفاهة آليات «إنتاج» النص البرلماني القائمة على تجميع أوسع قدر من المواضيع لإرضاء واسترضاء الكِتل وضمان دعمها (رغم التناقضات بينها) على قاعدة ما نسميه بالعامية «سمك، لبن، تمر هندي».
رابعاً، تكفي قراءة البند الأول ولهجته الفظّة والخشنة (الخارجة عن أي أصول وأعراف) فضلاً عن مضمونها (أحداث الطيونة، انفجار المرفأ، سلاح المقاومة...). لاكتشاف سهل لترداد المقولات الأطلسية والإسرائيلية في الشأن المذكور.
خامساً، من الواضح بالتالي أن الموقف الذي اتخذه «البرلمان الأوروبي» هو موقف سياسي بامتياز، يؤكد ما هو مؤكّد من سياسة الاتحاد الأوروبي التي حدّدها مجلس الدول منذ انطلاق الحرب على سوريا والتي تُنفذها في مجال السياسة الخارجية «الخدمة الأوروبية للعمل الخارجي»، والتي اشتدت حِدّةً منذ اندلاع المواجهة بين دول الناتو والاتحاد الروسي.
هذه السياسة واضحة ولا لُبس فيها منذ ارتداد الاتحاد الأوروبي على مواقفه المُعلنة لعقود، بدءاً بالدعم المُطلق للكيان الصهيوني المحتل في فلسطين (تجلّى بالهرطقات المُنحطّة والكاذبة التي تجرّأت عليها رئيسة المفوضية في ذكرى النكبة)، مروراً بالإمعان في حصار سوريا ومحاولة تدميرها والعمل على التلاعب الديمغرافي فيها كما في لبنان من خلال الإصرار على مشاريع توطين النازحين، وعلى منع نهوض وعمل مؤسسات هذا الأخير من خلال الالتفاف عليها بواسطة منظمات لا شرعية لها يقوم الاتحاد بتمويلها، إضافة إلى التدخل السافر في أدنى تفاصيل الشؤون الداخلية للبنان والعمل على إضعاف مناعته وقدراته في وجه مشاريع العدو التدميرية ومن يتماهى معه. هذا غيض من فيض.
سادساً، لنضع جانباً ما شهدناه من رقصات البعض الذين اعتقدوا أن صدور القرار يسمح لهم بالتهويل والتخويف والتضليل. ما يهمّنا هنا هو موقف الدولة اللبنانية. «الدولة» وليس السلطة، أو بالأحرى ممن ينتحلون اليوم وفي ظرف استثنائي صفات لا يمتلكونها ويذهبون في الخنوع إلى حدّ يُلامس الخيانة، ليس بعدولهم عن الدفاع عن المصالح الوطنية فحسب بل بالتجرؤ على المساس بوحدة الأرض والحدود.
لو كانت لدينا «دولة» مُكتملة لكانت وضعت حداً لتمادي الاتحاد الأوروبي بالتدخل في شؤوننا الداخلية. ولو كانت لدينا الجرأة والشجاعة لكانت انتفضت المؤسسة التشريعية واتخذت الإجراءات الرادعة في وجه الانتهاكات السافرة للسيادة الوطنية.
لو كانت لدينا دولة لكانت أخضعت الاتحاد هذا لمساءلة لا بد أن تأتي يوماً ما، على لسان رسميين ممن يُؤمنون فعلاً بقيم السيادة والكرامة الوطنية. منها على سبيل المثال لا الحصر: بأي مقياس وبأي حق تسمحون لأنفسكم التدخل في أدنى تفاصيل شؤوننا فيما شكّلتم في برلمانكم (الأوروبي) «لجنة مُكافحة التدخل الخارجي» في شؤونكم الداخلية. وفق أي مبدأ تُمعنون بالكيل بمكيالين؟ بأي مقياس تعطون صباحَ مساءَ دروساً في مكافحة الفساد فيما فسادكم ينخركم حتى النخاع، وما فضيحة الرشوة الأخيرة التي زوّرتم اسمها (هي بالفعل «برلمان أوروبي غايت») سوى جبل جليد فسادكم؟ بأي حق تتدخلون في شؤوننا المُجتمعية مُعلنين تفوق «قيمكم» المُزيفة مرجعية كونية؟ تم إحصاء خمسة وثلاثين ألف سمسار يعملون ليلَ نهارَ على التأثير والضغط على نوابكم السبعمئة وأربعة وتُعطوننا دروس بالعفة؟
على أن المُساءلة لا تكفي. حان وقت العمل والتصحيح. وآن أوان إعادة النظر في مسار هذه «الشراكة» غير المتوازنة والمُختلّة التي أمعنتم من خلالها في التدخل في شؤوننا الداخلية وتفاصيل حياتنا المُجتمعية.
آن الأوان لإعادة النظر في اختلالات معاهدة برشلونة اللامتكافئة، فلسنا بحاجة إلى «خبرات» (مُبتذلة) بل إلى تبادل مُتعادل للتجربة.
لقد أثبتم أنّكم لستم شركاء بل إنكم طرف يسعى إلى الهيمنة والتسلط. أما مهمة التصحيح وإعادة التوازن فستكون من المهام الأساسية المنوطة بالدولة القادمة وبرئيس الدولة القادم، وعنوانها استعادة السيادة والكرامة الوطنية بجميع تفاصيلها ومُندرجاتها. هذا هو الشرط الأساس لنهوض لبنان: أن نكون شركاء لا توابعَ!
لقد أفسدتم نص المُعاهدات وروحها وآن أوان التصحيح.
أما السفيرة المُغادرة التي تجرّأت، يوم عيدها الوطني بكلام لا نظير لانحطاطه وقلة حيائه بحق لبنان واللبنانيين، وأمام حفنة من الخانعين، والتي سمحت لنفسها من على أرض لبنان بتوجيه كلام مُفعم بالدناءة والكراهية إلى دولة ثالثة (سوريا) مُنتهكة بوقاحة أبسط قواعد مُعاهدة فيينا والأصول الدبلوماسية، فنقول لها: لقد نزعتم القبّعة، ربما، لكنّ العقل بقي كولونيالياً.