بعد مذكرة التوقيف الغيابية التي أصدرها القضاء الفرنسي أمس، لم يعد في الإمكان البحث عن مخارج لحماية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. مع ذلك، يواصل «حاضنوه» من النافذين في السلطات الدستورية والتنفيذية، البحث عن آلية تمنع إدانته بتهمة اختلاس المال العام. وتظهر الاتصالات الجارية من دون توقف هذا الإصرار يعود إلى خشية عدد كبير من اللبنانيين، رسميين وسياسيين وحزبيين وإعلاميين ورجال مال وأعمال ومصرفيين، من أن تصيبهم محاكمة سلامة أو إدانته بشظاياها. والخشية ليست من إجراءات تتخذ في لبنان، بل في الخارج. إذ إن التحقيقات المحلية لا تبشر بخير، وهي التي دفعت إلى القبول بشكل من أشكال الوصاية القانونية الخارجية، لتحقيق العدالة في ملفات مسكوت عنها منذ ثلاثة عقود.إصدار القاضية الفرنسية أود بوروزي مذكرة توقيف غيابية بحق سلامة لا تعني أن ملف الاتهام بحقه قد اكتمل. بل هو خطوة إجرائية قامت بها لعدم مثوله أمامها في باريس، أمس، في جلسة حُددت مسبقاً. أما الخطوات الاتهامية الكاملة فتحتاج إلى إنجاز كامل الملف الذي يشمل، إلى جانب الحاكم، شخصيات وكيانات، وإعداد لائحة اتهامية قبل أن يحال الملف إلى غرفة خاصة للتدقيق في الأدلة تمهيداً لإحالته إلى المحاكمة. وغرفة التدقيق في الأدلة تشبه إلى حد بعيد قاضي الإجراءات التمهيدية الذي عمل في المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري، أي بمعنى آخر الهيئة الاتهامية. أما الخطوة الإجرائية الأسرع، فتتمثل في رسالة ستبعث بها القاضية الفرنسية، عبر وزارتي العدل والخارجية الفرنسيتين، إلى وزارتي الخارجية والعدل في بيروت، تتضمن المذكرة وتطالب بتنفيذها. ولدى وصول الرسالة، يفترض بالجهات القضائية المعنية المبادرة بطلب مثول سلامة أمام قاضي التحقيق شربل أبو سمرا لإبلاغه مضمون المذكرة.

هل يلتزم لبنان التنفيذ؟
بعيداً من الاعتبارات السياسية التي تشير إلى أن ليس في لبنان من يمكنه تنفيذ قرار كهذا في ظل شبكة الحماية التي يتمتع بها سلامة من أركان الحكم، فإن للجانب القضائي أهميته أيضاً. إذ إن لبنان الذي لا يسلّم المطلوبين من مواطنيه إلى دول أجنبية لمحاكمتهم، سيطالب السلطات الفرنسية بتزويده بالملف للتحقيق مع المتهم ومحاكمته. ولا يُتوقع أن يلبّي الفرنسيون طلباً كهذا لأسباب كثيرة، أبرزها رغبتهم في إجراء المحاكمة في فرنسا بحجة أن القضاء اللبناني غير مستقل ويخضع لنفوذ السياسيين وأصحاب المال، إضافة إلى أن محاكمة سلامة في باريس تتيح مصادرة الأموال موضوع الجريمة وعدم تسليمها إلى لبنان.
مذكرة التوقيف الدولية لا تعني اكتمال ملف الاتهام لكنها تعطّل إجراءات الطعن من قبل الحاكم


إجرائياً أيضاً، تقطع المذكرة الفرنسية الطريق أمام سلامة للطعن في قانونية إجراءات القاضية الفرنسية، خصوصاً لجهة عدم تبلّغه بالمثول أمامها بحسب الأصول. فبحسب القانون الفرنسي، يحرم إصدار مذكرة التوقيف المتهم من حق الطعن في أي إجراء، ويلزمه المثول أمام القاضي المعني أولاً، قبل أن يطلب استرداد المذكرة أو التشكيك في قانونية التحقيق. مع الإشارة هنا إلى أن القاضي أبو سمرا لم يبلّغ سلامة وفق الأصول، بناء على خلفية سياسية أو لغاية ما. إلا أن تجاهل فرنسا للإجراء القانوني الخاص بآلية التبليغ التي يعتمدها القضاء اللبناني يضعف الموقف الفرنسي، لأن القانون اللبناني يلزم القضاء بإصدار قرار تبليغ وبآلية لتنفيذه، ولا يعتبر التبليغ تاماً إذا ما كان شفهياً، وهو ما فعلته بوروزي عندما اعتبرت أنها أبلغته في نهاية جلسة الاستماع إليه في بيروت. إذ إن القانون اللبناني يحصر التبليغ الشفهي بأخذ العلم، ويميز بين أخذ العلم وبين التبليغ أصولاً.

كيف سيتصرف سلامة؟
بعد صدور مذكرة التوقيف، أصدر سلامة بياناً اعتبر فيه أن ما حصل «يشكل بامتياز خرقاً لأبسط القوانين، كون حضرة القاضية لم تراع المهل القانونية المنصوص عليها في القانون الفرنسي بالرغم من تبلغها وتيقنها من ذلك». وأكد: «سأعمد إلى الطعن في هذا القرار الذي يشكل مخالفة واضحة للقوانين, وفي تجاهلها الصارخ للقانون تجاهلت أيضاً حضرة القاضية نفسها تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لعام 2003 والإجراءات المعترف بها دولياً التي تستند إليها هي بالذات في إطار المساعدة القضائية الدولية». وسأل: «هل يعقل أن قاضياً يطبق الاتفاقيات الدولية باتجاه واحد»، متهماً بوروزي بأخذ القرار «بناءً على أفكار مسبقة من دون إعطاء أي قيمة للمستندات الواضحة المبرزة لها، وهذا ما يتضح أيضاً بتشنجها الذي وصل أخيراً إلى حد عدم التقيد بالأصول المفروضة في القوانين الفرنسية وفي المعاهدات الدولية».
وبحسب مصادر على صلة بالحاكم، فإن الأخير سيتصرف على أساس عدم الاعتراف بالمذكرة التي «يتوقع عدم امتثال السلطات اللبنانية» لها. ورفض سلامة إجابة أحد من سائليه عن كيفية تعامله المهني، لناحية التنحي عن منصبه أو طلب إعفائه من مهامه.
وفي هذا السياق، سرت في بيروت أمس تحليلات كثيرة حول انعكاس صدور مذكرة التوقيف على مسار عمل مصرف لبنان، وجرى التداول بأخبار غير مؤكدة عن احتمال لجوء مصارف أوروبية بارزة إلى وقف التعامل مع أي مستند مالي أو نقدي يرد فيه اسم سلامة، وأن مصرفيين لبنانيين باشروا اتصالات مع نظراء لهم في أوروبا ومع وزارة الخزانة الأميركية لمعرفة ما إذا كان القرار سيؤدي إلى وقف العمل مع مصارف المراسلة في الخارج. علماً أن الأعراف تقول إنه في حالة سلامة، وهو موظف يتولى «الخدمة العامة»، فإن المتوقع أنه سيكون منشغلاً بالدفاع عن نفسه، ولن يكون قادراً على القيام بمهامه، ما يجب أن يحث السلطات المعنية على مطالبته بالتنحي ونقل مسؤولياته إلى الشخص الذي يليه بحسب القوانين المرعية الإجراء. لكن ردود الفعل التي نُقلت عن الحاكم كانت حتى مساء أمس باردة إزاء خطوة من هذا النوع.