في خريف 2019، مع تعيين مجلس الوزراء سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، عُلّقت عليه آمال عدد لا يستهان به من القضاة لإصلاح القضاء وقيادة ثورة داخلية في قصور العدل. فالرجل (كان) ذا سمعة لا غبار عليها وصاحب مسيرة قضائية لم تلطّخها فضيحة، حتى سادت مقولة بين القضاة بأنه «لو كان اختيار رئيس مجلس القضاء يتم بالانتخاب لما انتخب القضاة سوى عبود». وهو بدأ مشواره بدفعٍ قوي من رئيس الجمهورية السابق ميشال عون الذي نُقل عنه إن «اختيار عبود لنزاهته على رغم لونه القواتي سيشكّل كريديت للعهد».
التشكيلات: خيبة وعرقلة
استهّل رئيس مجلس القضاء الأعلى عهده بالتشكيلات القضائية، واعداً بأن تكون بعيدة من التدخلات السياسية، وأن تُحدِث تغييراً منتظراً منذ زمن. لكن قضاة كثراً أجمعوا على أن ما أعدّه ومجلس القضاء من اقتراحٍ للتشكيلات لا تتجاوز نسبة الإصلاح فيه الربع، عبر إزاحة قضاة تدور حولهم شبهات من مناصب مهمة، وترقية آخرين ظُلِموا لسنوات، فيما كان بإمكانه إعداد تشكيلات بـ«دوز» إصلاحي عالٍ، هو المحصّن بتأييّد الجسم القضائي له.
من التشكيلات بدأت بوادر الشرخ في مجلس القضاء الأعلى، مع رفض عبود الأخذ في الاعتبار توصية مدعي عام التمييز غسان عويدات بشأن اختيار معاونيه في النيابات العامة. إذ تذرّع بأن اختيار هؤلاء يجب أن يتم وفق معايير محددة، منها درجات القضاة، علماً أن تعيينه رئيساً للمجلس أطاح بـ 12 قاضياً كانوا أعلى منه درجة.
على خلفية ذلك، اتهمته مصادر قضائية بالتذرّع بالمعايير لاختيار قضاة محسوبين على حزبي القوات اللبنانية والكتائب إلى مناصب «حساسة». ومن الأسماء المطروحة، كان واضحاً خضوع عبود لإملاءات السلطة. فقد لبّى طلبات كل الأحزاب، باستثناء التيار الوطني الحر الذي اختاره على رأس المجلس. وهذا قد يُحسب له لا عليه، لولا سياسة الكيل بمكيالين التي انتهجها: فهنا يتمسك بمعيار الدرجات وهناك يتخطّاه، من دون مبررات واضحة في الحالتين. ويتردّد في أروقة العدلية أنه في مكانٍ ما كان يبحث عن قضاة «تُدار آذانهم إما له، أو لبعض القوى السياسية». ما أدّى إلى عدم اعتماده معايير صارمة على الجميع. كما سُجّل عليه تجاهله فكرة المداورة الطائفية في المناصب التي كُرّس كل منها لطائفة معيّنة بعد عام 2005، بسبب توترات البلد آنذاك، كمناصب الرئيس الأول الاستئنافي وقاضي التحقيق الأول والنائب العام الاستئنافي في كل محافظة. وبدل أن يعتمد المداورة انخرط في تكريس العرف، علماً أنه قبل 2005 كانت مجالس القضاء المتعاقبة تُدخِل تغييرات في تلك المراكز.
مثّلت التشكيلات صدمةً لكل من يعرف سهيل عبود. رفض رئيس الجمهورية توقيع المرسوم، وكانت النتيجة التي يتحمل عبود جزءاً كبيراً منها تعطيل الملف، ما انعكس الأمر شللاً في العدلية، بخاصة بعد تقاعد قضاةٍ لم يعُد بالإمكان تعيين بدائل عنهم (3 في مجلس القضاء الأعلى و6 في الهيئة العامة لمحكمة التمييز). نِسَب الشغور الكبيرة، ومحاولة تسيير الأمور بالتكليف، ضعضعت قصور العدل، وأثّرت على انتظام العمل بحدود 30 إلى 40% بتقديرات القضاة، الذّين يردون جذور المشكلة إلى أمرين: التسييس وعِناد «الريّس».

الخطيئة الكبرى
فجاجة الدور السلبي لـ«ريّس العدلية» بدأت بالبروز بعد انفجار مرفأ بيروت حين قرّر أن يكون طرفاً، ويتقدّم جيش المدافعين عن المحقّق العدلي طارق البيطار. أمّن كل الدعم القضائي للأخير، وبذل جهوداً كبيراً لتغطية تجاوزاته القضائية والدستورية، ومنع أي محاولة لمحاسبته، وحوّل كلّ دعاوى الارتياب وطلبات نقل الدعوى التي قدّمت ضدّ البيطار إلى غرف تمييزٍ يرأسها قضاة تابعون له، فرضهم في الهيئة العامة على رغم أنهم غير أصيلين، وضغط عليهم لعدم إصدار أي قرار بالدعاوى يسيء إلى البيطار.
إلا أن أخطر ما في دوره، وهو ما لم تشهده العدلية في تاريخها، بما فيه سنوات الحرب الأهلية، رعايته لانقسامها طائفياً من باب قضية المرفأ. مع الفرنسيين وبدعمهم طيّف الملف، وصوّره على أنّه ضد المسيحيين، وخلقه أجواء في قصور العدل بأن كلّ من يحاول الإساءة للبيطار أو اتخاذ إجراء بحقّه تتراجع شعبيّته مسيحياً، ويُصوّر ضد المزاج العام المسيحي. تحت هذا الضغط تجنّب كل القضاة المسيحيين، بمن فيهم المعترضون على استنسابية البيطار وانتقائيته اتخاذ قرارٍ بالملف.
مسارٌ أدى بالنتيجة إلى انقسام القضاء اللبناني طائفياً بين المسلمين والمسيحيين. ويقال جهراً وهمساً في قصور العدل أن «الريّس» عبود وجد في البيطار ورقة استخدمها لتكريس واقع جديد يقوم على تطييف القضاء واختصاره بشخصه من جهة، وتقديم أوراق اعتماده السياسية للخارج من جهة أخرى.

ضَرب فصل السلطات وتسلّح بالشارع
وإلى ذلك، نقل عبود الخلاف إلى الشارع الذي تحوّل، بشكلٍ غير مسبوق، إلى سلاحٍ بيد قاضٍ ضد آخر. أصحاب هذا الرأي يحسبون عليه لقاءاته المتكررة مع محامين نشطوا في «انتفاضة تشرين». هؤلاء تحرّكوا أمام قصر العدل مرّة للضغط لإنجاز التشكيلات القضائية متناغمين مع رئيس مجلس القضاء، بالتزامن مع خلاف عبود - عويدات حين رفض الأول الأخذ بتوصية الثاني في ما خص قضاة النيابة العامة وقضاة الجزاء. ومرّة تصدر قرارات ردّ الدعاوى ضدّ البيطار على وقع تصفيق متظاهرين أمام قصر العدل ابتهاجاً. ولم تكن هذه صدفاً، بل حملت «بصمات عبود» بوضوح. فالريّس «يحصّن مشروعه المتناغم ورغبات قوى سياسية داخلية وخارجية بجمهورٍ يتفاعل وقراراتٍ معلّبة غبّ الطلب»، على ما تؤكد أوساط العدلية. ولم يكن آخر هفواته، استقباله في مكتبه عدداً من النواب أثناء تظاهرة العدلية الأخيرة، متخطياً مبدأ فصل السلطات، ونقل النواب كلاماً لم ينفه عن تطمينهم بأن البيطار لن يُمسّ.

شقّ مجلس القضاء الأعلى
عرف مجلس القضاء الأعلى في عهد عبود، الخلاف الأول بين رئيسه ونائبه وبينه وبين الأعضاء أثناء التحضير للتشكيلات القضائية. وقيل حينها إن عبود يعتمد قاعدة «أنا أو لا أحد».
تكرر الأمر، في جلسةٍ صوّتت فيها غالبية أعضاء المجلس على تسمية قاضي التحقيق الأول في الشمال سمرندا نصار قاضياً رديفاً للبيطار. جنّ عبود وفرط نصاب الجلسة ولم يعترف بتصويت القضاة. انتفض بقية الأعضاء على «ديكتاتوريته»، ومن حينها يمارس طقوسه التعطيلية مانعاً اجتماع مجلس القضاء لقطع الطريق على تعيين قاضٍ رديف، وهي هيمنة لم يمارسها رئيس مجلس قضاء في تاريخ لبنان.
حوالي 40% نسبة الشغور وعدم انتظام العمل القضائي


مطلع العام، سجّل المجلس سابقة بإصدار بيانين متناقضين في الوقت ذاته، على خلفية الإجراءات القضائية التي أدّت إلى توقيف وليام نون، شقيق أحد ضحايا انفجار مرفأ بيروت. بيان صدر باسم المجلس، وآخر عن الريّس بمواقف مُناقضة، حاول فيه نزع الشرعية عن بيان تبناه غالبية أعضاء المجلس.
وفي تطورات ملف المرفأ في الأسبوع المنصرم، ضغط عبود لعقد جلسة للمجلس لاتخاذ موقفٍ من البيطار، على وقع تظاهرة تخللها اقتحام لوزارة العدل، من قبل جمهورٍ داعمٍ للمحقق العدلي. ليقع الخلاف مرة جديدة بين الرئيس والأعضاء، ولا ينعقد المجلس تحسباً لاستفادة عبود من ضغط الشارع.

الانفصال عن القاعدة القضائية
طيلة خمسة أشهر من الاعتكاف القضائي كان سهيل عبود يُطرِب القضاة بآرائه حول «الملاليم» المسماة مساعدة اجتماعية، والتي يعتبرها كافية للإجهاز على اعتكافهم. عالج القضاة أزمتهم بمعزل عن مجلس القضاء الأعلى. وأخذوا عليه «تقاعسه» على مدى ثلاث سنوات ونيّف من عمر الأزمة. إذ لم يسع الريّس إلى حماية حقوق قضاته بقدر انهماكه في وحول السياسة. ولم يبذل جهداً لتحسين أحوال قصور العدل التي تحوّلت في عهده إلى أكواخٍ مهترئة ومعطّلة، تفتقد أدنى مقومات العمل.
متأخراً استيقظ الريّس، وتحديداً في الجمعية العمومية الأخيرة، بعدما أنتج القضاة وصندوق التعاضد حلاً مؤقتاً. حجّته أنه «لا يطلب»، وردّهم «لا تطلب ما يعطّل العدالة في قضية أو ملف، إنما واجباتك كرئيس السلطة القضائية السعي لتأمين استمرارية عملها».