أما التطوّر الأبرز فيتعلق بتطوّر العلاقة بين رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل والدوحة التي زارها مراراً في الشهور الأخيرة، على هامش مفاوضات الترسيم، للقاء الوسيط الأميركي عاموس هوكشتين من دون إعلان، كون العقوبات الأميركية تمنع أي مسؤول أميركي من لقائه. وقد حصل هوكشتين على استثناء خاص أتاح له لقاء باسيل في الدوحة وغيرها، مع إدراك الأميركيين أن الأخير هو المفاوض الأول في الملف، والمنسق الأبرز مع حزب الله.
هذه كلها مؤشرات على أن تقدماً إيجابياً يحدث في العلاقة بين قطر ولبنان، في وقت لا تزال الرياض تعتمد سياسة المقاطعة رغم تداعياتها على لبنان، وعلى الطائفة السنية خصوصاً، بعد قرارها معاقبة الرئيس سعد الحريري ومحاولة وراثته سياسياً عبر الانتخابات النيابية أو عبر «حراك» السفير وليد البخاري الذي لا يبدو أنه أدى إلى النتائج التي يرغب السعوديون بها.
في لبنان، حاول البعض تفسير الأمر وكأنه مجرّد انفتاح قطري على لبنان، في إطار المصالح الاقتصادية والاستثمار في قطاع النفط. لكن العارفين بأسرار التواصل القطري مع القيادات اللبنانية يؤكدون أن «الممرّ البحري» سيفتح الأبواب أمام دور سياسي لقطر في الأشهر المقبلة.
صحيح أن العلاقة بينَ قطر وبعض القوى الأساسية في لبنان وصلت إلى ذروة السوء مع بداية الأحداث في سوريا عام 2011، بعدما موّلت الدوحة، إلى جانب السعودية والولايات المتحدة، الجماعات الإرهابية التي دمرت سوريا. لكن ذلك لم يسقط «النفوذ» القطري، على محدوديته، نتيجة الدور الذي لعبته قطر سياسياً وتفاوضياً وخدماتياً خلال عدوان تموز 2006، والذي تطور إلى رعايتها مؤتمر الدوحة عام 2008.
أكثر من ذلك، حافظت قطر، خلال أزمتها مع السعودية وبقية دول الخليج، على علاقة خاصة مع إيران، وأبقت الهواتف مفتوحة مع قيادة حزب الله في لبنان. ثم كانَ ما كان من تغيير مسار الحرب في سوريا والحصار على قطر والدور الإيراني في التخفيف من حدة الحصار، ليساهم في توطيد العلاقة مجدداً وانعكاسها على ساحات في المنطقة من بينها لبنان، وصولاً إلى قيام وفود قطرية بزيارة لبنان بعيداً من الأضواء، وطلب مساعدة حزب الله في استئناف التواصل مع القيادة السورية. وهو أمر لا يزال مستبعداً بسبب موقف الرئيس بشار الأسد الحاد من الدور القطري في تخريب سوريا.
إلى ما قبل عام، اقتصرت العلاقة بين قطر ولبنان على سياسة إيجابية تجاه البلد كرستها مشاركة أمير قطر تميم بن حمد في القمة الاقتصادية في بيروت بعدَ عزوف معظم القادة العرب عن المشاركة فيها وتقديم المساعدات. كما استمرت قناة الاتصال غير المعلنة مع حزب الله مفتوحة. ولم يكُن دخول الدوحة قطاع النفط اللبناني وارداً سابقاً مع تفضيل الأميركيين للإمارات كجائزة للتطبيع الإماراتي – الإسرائيلي. لكن هذا التطبيع كانَ نفسه السبب في وضع فيتو من قبل قوى لبنانية بارزة واستبعاد الإمارات من المنافسة، فضلاً عن إخلالها بتعهداتها بإطلاق سراح موقوفين لبنانيين معتقلين لديها.
الدوحة تعزز علاقتها بباسيل وتوسع قنوات التواصل مع حزب الله وتنسيقها قائم مع الفرنسيين
كل هذه التحوّلات أسّست لقطر ممراً بحرياً، ساهمَ باسيل بشقه وسط التوترات القائمة. وهو لا يزال على «علاقة عميقة» مع القيادة القطرية. ووفقَ ما تقول مصادر مطلعة، فإن قطر جاهزة للعمل على مستويات ثلاثة: الاستثمار في قطاع النفط والقطاع المصرفي وبناء معامل كهرباء، وستكون هذه المهمة في حال سارت وفقَ ما هو مرسوم لها بداية لتسوية كبيرة مرتبطة بالملف الرئاسي والمشهد السياسي في البلد لسنوات لاحقة يكون للدوحة «ثمرة» فيه.
وينطلق القطريون في متابعة ملف لبنان من مشاورات وتعاون مفتوح مع باريس التي تولي أهمية كبيرة للدور القطري في ظل إصرار السعودية على الابتعاد ومخاوف الإمارات والكويت من القيام بخطوات تغضب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وتكشف مصادر مطلعة أن القطريين ليسوا بعيدين من الاتصالات التي تقوم بها فرنسا بما خص الاستحقاق الرئاسي. ويبدو أن الفرنسيين يحاولون الحصول على تفويض أميركي بأن تلعب الدوحة دوراً كالذي ترفضه السعودية، وينطلق الفرنسيون من قاعدة أن قطر ليست طرفاً في الأزمة اللبنانية ولديها تواصل مع كل القوى الفاعلة في لبنان.
لكن الأمر لن يكون بهذه السهولة، إذ يُمكن للسياسة السعودية في لبنان أن تكون لاجماً كبيراً لطموحات قطر. هذا احتمال وارد إذا كان هناك من مصلحة سعودية في تفجير الوضع الداخلي، وعدم وجود أي رغبة سعودية في الدخول بتسوية كتلك التي تسعى إليها باريس حالياً من أجل حلّ الملف الرئاسي والحكومي معاً، مع أن غياب المملكة في السنوات الأخيرة عن البلد وطريقة تعاملها مع القيادات السنية وتحديداً الرئيس سعد الحريري وما أسفر عنه من تشرذم وضياع داخل الطائفة يفتح إمكانية للتوجه نحو قطر كبديل للعلاقة مع الرياض وإن بالنسبة لشريحة صغيرة!