انتزع لبنان، من العدو الإسرائيلي وراعيه الأميركي، اتفاقاً على الحد البحري، في مواجهة ديبلوماسية - ردعية كانت محفوفة بالمخاطر وبإمكانات التصعيد الأمني. ونظراً إلى أهمية الإنجاز الذي يتجاوز البعد الاقتصادي والمالي للبنان، لينسحب على مجمل المعادلات القائمة بين الساحة اللبنانية - وربما الإقليمية - وبين الجانب الإسرائيلي، لا يمكن تجاهل عقبات يحتمل أن تظهر في اليوم الذي يلي التوقيع.مع بلورة الاتفاق والتوجّه إلى إبرامه، يتجه الطرفان، تحديداً الإسرائيلي، إلى تسويقه، علماً أنه بدأ منذ الآن يواجه مزايدات وأخذاً ورداً على خلفيات اللعبة السياسية داخل الكيان عشية الانتخابات المقررة أول الشهر المقبل.
مع ذلك، فإن الرأي الحاكم للمؤسسة الأمنية في إسرائيل، الذي دفع إلى بلورة اتفاق أقل ما يقال إنه جاء نتيجة تراجع إسرائيلي عن شروط كانت صلبة جداً، هو أن المؤسسة الأمنية نفسها سترعى منع اختراقه والانسحاب منه بعد الانتخابات، أياً كانت هوية الفائز فيها.
الإسرائيليون ممن يتابعون الإعلام العبري لا يعرفون بعد بنود الاتفاق وتفاصيله كما بلورها صاحب القرار في تل أبيب بمعية الوسيط الأميركي، ما يشير إلى أن حكومة العدو عادت وفعّلت الرقابة على الإعلاميين لعدم تناول هذه التفاصيل. لكن عملية التسويق بدأت مع تصريحات رأس الهرم السياسي، رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد، الذي عمل جاهداً على «تلميع» صورة الاتفاق شكلاً ومضموناً وتظهير ما فيه من فوائد مع إغفال أوجه الرضوخ الواضحة فيه، في حين عمل رئيس المعارضة بنيامين نتنياهو، على خلفية المزايدة الانتخابية، على تظهير صورة الخضوع كما هي، والتأكيد على أنه رضوخ كامل من إسرائيل لإرادة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، مؤكداً أن اتفاقاً كهذا لن يكون ملزماً له في حال فوزه في الانتخابات.
ورغم أن سجالاً كهذا يوحي بلا يقين إزاء مستقبل الاتفاق، إلا أن السجال الداخلي الإسرائيلي لا يلغيه ولا يحدّ من فاعليته، ويصعب تصوّر الانسحاب منه لاحقاً، لأكثر من سبب واعتبار لا تقتصر فقط على رأي المؤسسة الأمنية التي دفعت إليه لتجنّب مواجهة عسكرية.
في ميزان الربح والخسارة، وفي نظرة أولية، يظهر أن الجانبين رابحان ليس استناداً إلى بنود مسودة الاتفاق كما تبلورت أخيراً، بل من منطلق أنه جنّب الجانبين تصعيداً أمنياً كان من شأنه أن يتدحرج بسهولة إلى مواجهة واسعة. وهو ربح للجانبين قد لا يقارن نظرياً بأي خسارة. ويمكن لكل منهما ادعاء ما شاء، رغم أن كثيراً من الادعاءات مبالغ فيها، وكثيراً مما يقرّ به من خسائر يجري التقليل من شأنه. وهذه طبيعة أي اتفاق بين عدوين، خصوصاً مع عدو إسرائيلي يتمتع بتفوق عسكري وبتاريخ من الانتصارات على أعدائه، ويحرص على إنكار قوة الطرف الآخر التي أملت عليه رضوخاً لاتفاقات ما كان ليقدم عليها.

حصاد العدو
في الجانب الإسرائيلي، يمكن لقيادة العدو هناك التسويق لإنجاز تجنب خوض مواجهة عسكرية مع حزب الله ساحتها الأساسية المنشآت الغازية الإسرائيلية وبنيتها التحتية. وهذه من أهم النتائج التي استحصلت عليها إسرائيل في الاتفاق المتبلور، إذ إن العدو يعتقد أن الاتفاق يسحب هذا التهديد من نزاعات لاحقة تتعلق بالتنقيب عن الغاز واستخراجه من المنطقة الاقتصادية اللبنانية، في حال كان معرقل التنقيب طرف ثالث غير إسرائيل.
كما ينظر العدو براحة إلى أنه في حال تنفيذ الاتفاق، سيكون على طرفي الحد البحري «منصة هنا ومنصة هناك»، وهو ما يعد إسرائيلياً من الإنجازات التي تتيح لتل أبيب أن تردع حزب الله عن استهداف غازها، وإن كانت معادلة كهذه محلاً للتساؤل والتشكيك. كما يمكن لقيادة العدو الادعاء بأنها نجحت في التوصل إلى اتفاق مع لبنان من خلال مسيرة تفاوض ديبلوماسية، وإن بواسطة طرف ثالث، ما سيطرح في لبنان منطقاً مقابلاً لمنطق المقاومة، مفاده بأن التفاوض يعيد الحقوق، وهي ديباجة سيجري العمل على الترويج لها في لبنان وإسرائيل، رغم أن التفاوض تجاهل الحق اللبناني لأكثر من عقد، وكان ليستمر عقداً آخر من التفاوض بلا طائل، لولا تدخل المقاومة وتهديداتها.
في المقابل، سيرى العدو أن الاتفاق يمثل «ضعضعة» لاستراتيجية للحليف الأكبر، الولايات المتحدة، تجاه الساحة اللبنانية، ما يؤدي إلى تآكل الحصار الاقتصادي والمالي المفروض أميركياً على لبنان، عبر ما يتيحه الاتفاق من مكاسب اقتصادية للجانب اللبناني، وهو ما كانت أميركا وإسرائيل ترغبان بأن يكون رأس المقاومة والتطبيع ثمناً له.
قوة المقاومة وقدرتها ستدفعان المؤسسة الأمنية التي فرضت الاتفاق إلى «حمايته» في ظل أي حكومة مقبلة في إسرائيل


كما يدرك العدو جيداً أن ما جرى أعاد تثبيت الدور المركزي للعامل الأمني على طاولة القرار في تل أبيب، وهو يفوق في أهميته وتأثيراته العوامل الأخرى، سواء سياسية أو اقتصادية. فالخشية من الحرب، وإدراك أن لدى حزب الله القدرة والإرادة على خوضها، أعطت الأولوية للعامل الأمني على أي عوامل أخرى قد ترى في الاتفاق خسارة سياسية واقتصادية كبيرة يتعذر تعويضها. والعامل الأمني هو ما دفع المؤسسة الأمنية إلى فرض الاتفاق على المؤسسة السياسية الحالية، وسيدفعها إلى «حمايته» مع المؤسسة السياسية المقبلة. وما يفرض هذه المعادلة هو بقاء السبب على حاله: قدرة حزب الله المادية، وقراره باستخدام هذه القدرة.

حصاد لبنان
عملياً، يأتي الاتفاق ليزيل عقبة كبيرة كانت تحول دون استغلال لبنان لغازه والاستفادة منه. لكن الأهم هو أنه يثبت للبنان أن ما يمكن أن يتحصل عليه عبر استخدام قدرات المقاومة أكثر وأكبر مما يستحصل عليه عبر المفاوضات. كما بات واضحاً أن المقاومة حازت على سلاح جديد وهو سلاح التهديد وربما استهداف المنشآت الغازية الإسرائيلية في حال قام العدو بأي اعتداء على لبنان.
في المحصّلة، في التعليقات الإسرائيلية إقرار في أكثر من اتجاه: أن بناء الاتفاق جاء على خلفيات المصلحة الأمنية لإسرائيل، أي الحؤول دون تفعيل تهديدات حزب الله؛ وأن إسرائيل ستتمكن من استخراج الغاز من كاريش، ما يعني أنها لم تكن قادرة على استخراجه خلافاً لما ادعته وتطرفت في الإصرار عليه؛ وأنه أوجد ذخراً استراتيجياً مالياً للبنان، وهو الغاز، يكبح حزب الله عن الإضرار بإسرائيل خوفاً من رد فعلها ضد هذا الذخر.