غادر عاموس هوكشتين لبنان في 2 آب معرجاً على فلسطين المحتلة عبر الناقورة تاركاً وراءه كماً من التسريبات والتكهنات حول الطرح اللبناني للوسيط الأميركي خلال تلك الزيارة، والذي سمي الـ«23+» (رسم توضيحي 1). وها هو هوكشتين قادم اليوم إلى بيروت وسط تأرجح بين التفاؤل والتشاؤم من دون أن يتكشف رد كيان العدو على العرض اللبناني «غير القابل للتنازل».ما أشيع حول العرض اللبناني أنه يشتمل على كامل المساحة شمال الخط البائد المشكوك المنشأ 23 زائد مساحة «ما» (جيْب) يضم حقل قانا المحتمل. لم تتضح تلك المساحة. فقد تتراوح بين مساحة الجزء من حقل قانا المحتمل المنشورة بالإعلام و البالغة حوالي 20 كلم2 إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير. على أن تلك المساحة مهما بلغت لا تزيد منطقياً على عشرات الكيلومترات طالما أنها تعني حقل قانا من دون سواه.

رسم توضيحي 1– نموذج لما تقاطعت عليه عدّة مصادر للعرض اللبناني لهوكشتاين بُعَيد زيارته لبيروت الشهر الفائت. العرض الذي سُمّي 23+ و الذي يشمل كلّ المنطقة شمال الخط البائد المشكوك المنشأ 23 بالإضافة «لجيب ما» حول حقل قانا المُحتمل يعطي كامل هذا الحقل المُحتمل للبنان. تختلف التقديرات حول مساحة الجيب الذي يُحيط بحقل قانا في هذا العرض

منذ مغادرة هوكشتين، تعددت الآراء والتأويلات والتخمينات حول ما يدور بخصوص ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية. فمن المتفائلين المتوقعين موافقة العدو على شروط لبنان التي سلمها الممسكون بالملف لعاموس هوكشتين، للمتشائمين المتوقعين مراوغة العدو والوسيط مما سيدفع الأمور بالتالي إلى التصعيد تبعاً للتهديد الواضح والصريح وغير القابل للتأويل من قبل المقاومة. على أن غبار ما يحدث وضبابه يجب أن لا يحجبا العين عن التقدير «الموضوعي» للأمور. وضع كلمة موضوعي هنا بين مزدوجين مرده الخلاف حتى على المصطلحات والمفاهيم. مثال على ذلك: «حق لبنان بكامل ثرواته»، «كامل حقوق لبنان من دون زيادة أو نقصان»، «التمسك بحقوق لبنان كاملةً وكامل ثرواتنا النفطية»، «كامل الحقوق اللبنانية»،…
قبل كل شيء، وبعد كل شيء، اتفاقية الترسيم مع لبنان هي مصلحة لكيان العدو قبل أن تكون مصلحة للبنان. فاتفاق كهذا يعني هدوءاً طويلاً في المياه البحرية الجنوبية يسمح للكيان بالبدء بإنتاج الغاز وتصديره لأوروبا المتعطشة لهذا الغاز وما يعني ذلك من الفوائد الاقتصادية العائدة للأسعار التاريخية للغاز والتي يبدو أنها ستستمر كذلك لأجل طويل والاستراتيجية الاستثنائية الأهمية المتأتية عن تموضع العدو كرافد للغاز إلى أوروبا الباحثة عن بدائل للغاز الروسي.
ولا ننسين بأن الاتفاق يعطي كيان العدو أكثر من 80%؜ من المنطقة بين خط هوف والخط اللبناني 29، الخطين اللذين يتبعان آلية خط الوسط مع كامل تأثير لصخرة تخليت (هوف) وصفر تأثير لصخرة تخليت (29). فالاتفاق الحالي يدور حول الخط البائد المشكوك المنشأ 23 ويغفل قوة الحق اللبناني بالخط 29.
نعم، قبول الكيان بأي حل تحت ضغط المقاومة هو، بلا شك، سابقة ولا تقل من منظور الردع والتحول الاستراتيجي، عن حرب تموز. هنا المعضلة: الاتفاق مجحف كل الإجحاف بحق لبنان وهو مصلحة لكيان العدو، من جهة، ولكن حتى القليل الذي سيحصل عليه لبنان ما كان سيحصل عليه لولا ضغط المقاومة غير المسبوق مع ما لذلك من مفاعيل مستقبلية، هي حقاً معضلة تمشي فيها على حد السيف إذا أردت توجيه النقد لذلك الاتفاق المزمع ومآلاته. السكوت، ضمن الأجواء الطاغية الآن، هو مشاركة بالتعمية، ورفع الصوت بالنقد والتحذير قد يؤخذ على أنه توهين لإنجاز المقاومة في هذا الإطار.
لبنان، بمنطق الأشياء، لن يحصل على كامل ما طالب. فالوسيط الأميركي سيتدخل لإيجاد حل ما يعوض للكيان عن المكاسب التي حصل عليها لبنان زيادة عن الخط البائد المشكوك المنشأ 23. كيف؟ لا نستطيع إلا أن نحتمل بالتحليل المنطقي وبحسب ما يسرب بالإعلام. لبنان وضع أوراقه كلها على الطاولة وتقدم بعرض «غير قابل للتنازل»: الـ 23+. وكيان العدو لم يقبل بالعرض اللبناني ولو قبل به لكان الدخان الأبيض تصاعد منذ الشهر الماضي. «خلطة» ما بالتالي هي قيد الإعداد من قبل هوكشتين أقل من العرض اللبناني، ترضي كيان العدو. هل سيرضى بها لبنان؟ قد يكون «إبداع» هوكشتين، أقله عبر بنود مستترة، تعطي كيان العدو شيئاً ما مقابل حقل قانا المحتمل وتسوق كنصر لبناني من قبل الممسكين بالملف.
كثرت التصريحات والتسريبات منذ مغادرة هوكشتين منذ خمسة أسابيع ولغاية الآن عن بعض تفاصيل «الطبخة» والأثمان التي قد يطلبها العدو مقابل العرض اللبناني. التالي عرض موجز لأفخاخ أربعة محتملة قد تخفيها تلك المطالب وأثمان تلك الأفخاخ ومآلات غض الطرف عنها:

1 - ماذا يعني بكامل حقل قانا المحتمل

النائب إلياس بو صعب، المكلف بالملف من قبل الرئيس ميشال عون، صرح للإعلام عن تفاصيل حول المطلب اللبناني بحقل قانا المحتمل. بحسب تصريح بو صعب، الغاز الموجود في القسم المتواصل ضغطياً من مكامن حقل قانا المحتمل والواقع جنوب الخط البائد المشكوك المنشأ 23 هي للبنان من دون أن يكون للبنان إمكانية الحفر جنوب ذلك الخط (رسم توضيحي 1). بالتالي، هذا الغاز ينتج من آبار تحفر شمال هذا الخط. هذا يعني بأن أي جزء من الحقل المحتمل منفصل ضغطياً عبر فوالق (fault) يكون من حصة العدو وهذا محتمل تقنياً، وهي الحال مثلاً بين شطري كريش الرئيسي والشمالي.
تجدر الإشارة إلى أن أحداً لم يلتفت إلى هذا التفصيل، ما يعني أن الاتفاق المزمع قد يحتوي على أفخاخ مماثلة تمرر في لبنان من دون التصويب عليها. والنائب بو صعب ترك الباب موارباً لمزيد من التنازلات عن السقف اللبناني الجديد (23+) عبر القول بأن الوسيط الأميركي، وبعد أن سمع من «الطرفين»، عليه أن يطرح التصور الذي يقتنع به ويكون حلاً «للطرفين».

2 - مطلب العدو بتعويض عن «حصته» في حقل قانا المحتمل

على أن الأمر لم يتوقف هنا. فقد كثر الحديث أخيراً عن تعويض مالي يطالب به كيان العدو عما يعتبره «حصته» من حقل قانا المحتمل، أي القسم من حقل قانا المحتمل الواقع جنوب الخط البائد المشكوك المنشأ 23. تكرار الحديث عن هذا الأمر قد يكون بغرض التطبيع مع الفكرة بحيث تمرر لاحقاً من دون كبير اعتراض من قبل الرأي العام اللبناني. مطلب العدو هذا هو للأسف غير مستغرب ومتوقع.




فلبنان الرسمي الذي تخلى عن الخط اللبناني 29 قبل بدء المفاوضات الحقيقية ووضع سقفاً معلناً ألا وهو الـ 23+ و إن سماه «غير قابل للتنازل»، سيقابل بالمطالبة بالتنازل من قبل الوسيط كجزء طبيعي من المفاوضات. أما مدعاة السخرية في معرض ما ينشر فهو القول بأن التعويض ستدفعه شركة «توتال» وليس لبنان، وكأن «توتال» ستأتي بهذا المال من خزائنها. فهذا المال إن دفع سيكون من الغاز المنتج من حقل قانا المحتمل، أي من الكيس اللبناني وسيكون «تعويضاً» لبنانياً مباشراً لكيان العدو. والأنكى أن يمرر شيء ما من هذا القبيل تحت مسمى درء التطبيع. يخشى أن يصبح درء التطبيع هذا مدخلاً للتنازلات. وكأن الحفاظ على المصلحة الوطنية ومحاربة التطبيع بكل أشكاله لا يجتمعان في ملف الثروات الجنوبية.
«توتال» هي المستفيد الأكبر من كل ما يحدث، بمباركة لبنانية. فالشركة تواصل عملية استغبائنا منذ الاستحواذ على البلوك رقم 9 أوائل الـ 2018. «توتال»، التي حصلت على البلوك رقم 9 بسعر بخس مقارنة بالبلوك رقم 4 لوقوع الأول في منطقة «نزاع»، صرحت حينذاك بأنها تأخذ في الاعتبار المخاطر المتأتية عن «النزاع» وبأن المناطق الواعدة موجودة على بعد 25 كلم من «مناطق النزاع»، وذلك غير صحيح، والملمون بالملف يعرفون ذلك جيداً. فالمكامن الواعدة في حقل قانا المحتمل هي أفضل من تلك التي كانت «توتال» تنوي الحفر فيها شمال البلوك 9. وفي الوقت الذي أعلنت فيه «توتال» بأنها على دراية بـ«النزاع الحدودي» في الجزء الجنوبي من البلوك 9، أجلت الحفر مراراً بحجة وقوع جزء من البلوك 9 في منطقة النزاع. والآن تؤكد الشركة بأن الحفر سينتظر إلى أن تستتب الأمور في حقل قانا المحتمل لأنه أفضل مناطق البلوك 9. ونحن في لبنان مغلوبون على أمرنا. لا نملك إلا أن نقبل ما يقولون ولو كان الشيء ونقيضه. وفي الوقت الذي نرفع فيه الصوت مطالبين بأن تبدأ «توتال» الحفر، ولو خارج مناطق النزاع، وافق مجلس الوزراء اللبناني في جلسته في 5 أيار 2022 على تمديد مهل «توتال» من 22 تشرين الأول 2022 ولغاية 21 أيار 2025. مدد لها لثلاث سنوات إضافية «غير مشروطة» بينما كان قرارها واضحاً بعدم التنقيب لحين بت ملف الترسيم. نطالب «توتال» بالبدء الفوري بالحفر بينما أعطيناها ثلاث سنوات إضافية لفعل ذلك.

3- جزء من البلوك رقم 8 لكيان العدو

قد يكون المطلوب من قبل العدو والوسيط بأن يعوض العدو في البلوك رقم 8 مقابل مكاسب لبنان في حقل قانا المحتمل تحت بنود ضبابية تمرر في الاتفاق. بأن يقال مثلاً بأن الحقول المتداخلة تعود إلى البلد الذي تحوي مياهه الجزء الأكبر من تلك الحقول وهي الحال التي تنطبق على حقل قانا المحتمل وكذلك الحال في حقول محتملة أخرى في البلوك 8. هكذا فخ من الممكن أن يعمل على تمريره لبنانياً من دون التفات الرأي العام له. فيباع الاتفاق على أنه انتصار لبناني.
يرجح أن يكون البلوك 8 غنياً بالمكامن المحتملة التي يمتد بعضها من شمال الخط البائد المشكوك المنشأ 23 لجنوبه. أما القول بأننا لا نعرف شيئاً عن مكنونات البلوك رقم 8 لغياب المسح الزلزالي الثلاثي الأبعاد عن معظم البلوك فهو كلام لا يستوي. فلبنان يملك مسوحات ثنائية الأبعاد في كل البلوك. نعم، مما لا شك فيه بأن المسوحات ثلاثية الأبعاد أكثر دقة من تلك الثنائية. هذا لا يعني البتة عدم الاعتداد بالتحاليل القائمة على المسوحات ثنائية الأبعاد. فقبرص، مثلاً، اعتمدت فيها التحاليل والدراسات والتلزيمات على مسوحات ثنائية الأبعاد بمعظمها. وتجري العادة في حال وجود مسوحات ثنائية الأبعاد وثلاثية الأبعاد أن تجرى الدراسات التي تدمج الاثنين لتعظيم القيمة من المسوحات ثنائية الأبعاد. فلا أحد يدرس المسحين على حدة.
إذا صدقت التسريبات عن مطالب للعدو بجزء من البلوك 8 تعويضاً عن حقل قانا المحتمل ولرفضه إعطاء لبنان كامل المساحة شمال الخط البائد المشكوك المنشأ 23، سيشتمل مكسب العدو، على الأرجح، على حقل محتمل وسيشارك لبنان بأكثر من حقل محتمل. فنكون في لبنان كمن يتداوى من الرمضاء بالنار عند الحديث عن العمل على عدم إبقاء مكامن محتملة خشية من احتمالات التطبيع الذي قد يتأتى عنها. ومن الجدير التذكير بأن ما يعرفه العدو عن البلوك رقم 8 هو أكثر مما نعرفه. فهو يعرف ما نعرف بالإضافة إلى مسوحات إضافية قد يملكها وخبرة متأتية عن الحفر والتطوير والإنتاج من الحقول القريبة في المياه العربية المحتلة.
وتجدر الإشارة إلى أنه مهما كان الخط الذي سيعتمد في نهاية المطاف، سيأتي يوم ونكتشف أو يكتشف العدو مكامن ممتدة عبر ذلك الخط. على لبنان أن يكون جاهزاً لذلك السيناريو عبر طرق لنيل حقوقه من تلك المكامن المحتملة وتعظيم القيمة منها من دون الوقوع في شرك التطبيع. لن نعدم الوسيلة لنيل المطْلبين في الوقت نفسه. أي كلام آخر يعني طوي صفحة تلك الحقول المحتملة حتى تحرير فلسطين وبحرها.

4 - قضم مساحة ساحلية كتعويض عن الـ 23+

جرى الحديث أخيراً عن مطلب للعدو كتعويض عن الـ 23+ وذلك في منطقة ساحلية قد تتعلق بالـ B1 ونقطة رأس الناقورة (رسم توضيحي 2). هنا لا بد من التذكير بأن لأي تنازل في البحر مآلات في البر والعكس صحيح. من جهة أخرى، أي خط لا ينطلق من نقطة رأس الناقورة سيكون بمثابة القبول بالنزاع على هذه النقطة التي تنتمي للبنان بلا أي شك. ومن الجدير التذكير به هو المنطقة في البحر الإقليمي ذات الطابع الاستراتيجي التي يتنازل عنها لبنان بعرضه الـ 23+، المنطقة الوحيدة التي للبنان سيادة عليها إذ لا سيادة للدول على مناطقها الاقتصادية الخالصة حيث السيادة محصورة بالثروات.

خاتمة
قد تكون حاجتنا لبدء التنقيب في خضم الانهيار، قد يكون الانقسام اللبناني المستتر والذي نلونه، نفاقاً، بادعاءات «الموقف اللبناني الموحد»، قد يكون سوء إدارتنا للملف منذ بداياته عام 2007 ولغاية اليوم، قد يكون عجزنا لضعف بنيوي فينا عن الأخذ بأسباب القوة لتعظيم مصلحتنا الوطنية: قوة الحق وقوة القوة، قد تكون مصالحنا الضيقة التي تتقدم على المصلحة الوطنية، قد يكون مزيج من الأسباب الواردة أعلاه الذي أدى بنا لخفض سقف مطالبنا والتنازل عن كثير من حقوقنا. و لكن لا نخدعن أنفسنا ونزعمن بأن الاتفاق قيد الطبخ يحافظ على كامل حقوق بلدنا بثرواته. قد تتعدد الأسباب وراء ضعفنا، لكن لا نلبسن الضعف ثوب القوة وثوب الانتصار.
قد يكون «إبداع» هوكشتين، أقله عبر بنود مستترة، تعطي كيان العدو شيئاً ما مقابل حقل قانا المحتمل وتسوق كنصر لبناني من قبل الممسكين بالملف


الفرصة تاريخية للبنان للحصول على حقوقه بثرواته الجنوبية. فالزخم المتأتي عن الأسعار الخيالية للغاز وحاجة أوروبا لتنويع مصادر الغاز من جهة، والدعم غير المسبوق الذي أمنته المقاومة للمفاوض اللبناني، من جهة ثانية، هذا الزخم لن يتكرر. لبنان الرسمي لسوء حظنا قزم المطلب اللبناني ووضع سقفاً لا يرقى لتلك الفرصة. حتى تلك التنازلات لا يبدو بأنها سترضي العدو لعتوه، من جهة، ولفهمه لهشاشة وضعنا الداخلي من جهة ثانية. حتى القليل الذي طلبه لبنان يخشى أن يتنازل عن بعضه. هل يفعل؟ عسى لا. يبقى السؤال الأهم: المقاومة كانت شديدة الوضوح في خياراتها في حال لم يستجب العدو والوسيط للمطلب اللبناني. ما هي خطة الممسكين بالملف في لبنان في هذه الحالة؟ أي شيء غير التثبيت الفوري للحق اللبناني بالخط اللبناني 29 سيكون إمعاناً بالتفريط وسوء الإدارة.

* باحث وأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت