مرّ عامان على انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب. لا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل. لم يعرف أحد ماذا حصل في ذلك اليوم المشؤوم. نُتَف رواياتٍ تناقلها الإعلام. تسريباتٌ وتسريبات مضادة. كلٌّ يزعم أنّ الحقيقة لديه متمسكاً بترويجها، لكنّ أحداً لا يعلم حقيقة ماذا حصل. هل هناك قاتلٌ فعلاً أم أنّ الجميع ضحايا بنسبٍ متفاوتة؟ لا ينفي أحد الإهمال الذي نتج منه جمع مكوّنات قنبلة ضخمة في العنبر رقم 12 طوال سبع سنوات، ما أدى إلى الانفجار الهائل الذي تسبّب بنكبة بيروت، لكنّ الحديث هنا عن فاعلٍ خفي أشعل الشرارة!
ارتياب مشروع
في 4 آب 2020، هزّ انفجار ضخم العاصمة بيروت متسبّباً بوفاة 232 شخصاً وجرح الآلاف. كُلِّف القاضي فادي صوّان محققاً عدلياً ليمكث ستة أشهر قبل أن يُنحّى من قبل محكمة التمييز للارتياب المشروع الذي تقدّم به النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر في شباط 2021. لم يُقدّم صوّان أي جديد على التحقيق الذي أُجري في وسائل الإعلام، محاولاً استرضاء الرأي العام. بل رفع سقف ادعائه ليحصره بالمسؤولين السياسيين، رغم أنّ المسؤولية أمنية عسكرية بالدرجة الأولى، لينال تصفيق الشارع مخفياً أداءه المهزوز. طلب الاستماع إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزير المال السابق علي حسن خليل ووزيرَي الأشغال السابقين يوسف فنيانوس وغازي زعيتر كمدعى عليهم، إضافة إلى المدير العام لأمن الدولة، اللواء طوني صليبا. كما سطّر مذكرات توقيف بحق عدد من المسؤولين في المرفأ من حراس وأمنيين وإداريين.

(هيثم الموسوي)

لم يستدع صوّان قائد الجيش السابق جان قهوجي؟ وكذلك رئيس الأركان السابق وليد سلمان الذي وقّع بالإنابة عن قهوجي مقترحاً عرض نيترات الأمونيوم على شركة الشمّاس علّها تشتري البضاعة المحتجزة في المرفأ؟ لقد مَنَحَ صوان حصانة لقيادة الجيش السابقة والحالية لما لهما من مونة عليه، وهو الذي كان قاضياً للتحقيق في المحكمة العسكرية طوال عشر سنوات. لم يُفهم لماذا اختار صوّان رئيس حكومة حالي، و3 وزراء سابقين. إن كان رئيس الحكومة الحالي مرتكباً أو مهملاً أو مُقصّراً، فإنّ ذلك يعني حُكماً أنّ وزراء في حكومته سيكونون مرتكبين ومقصّرين أيضاً. وإذا كانت المسؤولية تقع على عاتق الوزراء السابقين، فلماذا استثنى رؤساء الحكومات السابقين؟

ادّعاء وأذونات ملاحقة
المهم، ذهب صوّان ليخلفه المحقق العدلي طارق البيطار. اسمه اقترحته وزيرة العدل لينال موافقة مجلس القضاء الأعلى. استبشر الجميع خيراً في استقبال القاضي الذي لم يُعرَف له لون سياسي، سوى انتماء قومي لعائلته العكّارية. كذلك الأمر لجهة نظافة الكفّ. لم يكن الرجل قد وُضِع تحت المجهر بعد. وحُشِرَ بيطار بين اثنين: سلوك مسلك صوّان بتكبير الحجر ولو على حساب الحقيقة، وخيار التحقيق بحثاً عن الحقيقة الكاملة ولو لم تُعجِب أحداً. لم يتوقع أحد المسار الذي سيسلكه البيطار. انكبّ القاضي على التحقيق ليستمع إلى عشرات الشهود والمدعى عليهم. مرّت أربعة أشهر، لينهي المرحلة الأولى. في تموز 2021، طلب بيطار أذونات لملاحقة قادة أجهزة أمنية ورفع حصانات نواب مشتبه في تورّطهم بإهمال قصدي، مع علمهم بالخطر، ما تسبّب بوقوع الانفجار. ووجّه كتاباً إلى مجلس النواب يطلب فيه رفع الحصانة النيابية عن كلّ من وزير المال السابق علي حسن خليل، وزير الأشغال السابق غازي زعيتر ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق. كما وجّه كتابَين، الأول إلى نقابة المحامين في بيروت لإعطاء الإذن بملاحقة خليل وزعيتر كونهما محاميين، والثاني إلى نقابة المحامين في طرابلس، لإعطاء الإذن بملاحقة وزير الأشغال السابق المحامي يوسف فنيانوس، وذلك للشروع باستجواب هؤلاء جميعاً بجناية القصد الاحتمالي لجريمة القتل وجنحة الإهمال والتقصير. كذلك ادّعى على ضباط في القيادة السابقة والحالية للجيش، بينهم قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي ومدير المخابرات الأسبق العميد كميل ضاهر، إضافة إلى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا. كما طلب محاكمة قضاة مشتبه في تورطهم في التقصير والإهمال الذي أدى إلى وقوع الانفجار، لكنه لم يقترب من قائد الجيش الحالي جوزيف عون. كما حيَّد هيئة القضايا في وزارة العدل ووزراء العدل والدفاع جميعاً.

تهمة الاستنسابية
هكذا رأى فريق من اللبنانيين مستهدَف بالادعاء، أنّ الادعاءات لم تكن شاملة بل استنسابية، بعدما اقتصر الادعاء على شخصيات يحسب معظمها على طرف سياسي معين، وبعد استثناء غير مبرر لمسؤولين تعاقبوا على شغل المناصب نفسها مع أنّ الحكم استمرارية بما لا يُعفي المستبعدين من المسؤولية، لأن المسؤولية الأكبر تتحملها قيادة الجيش والقضاء. كلّ هذا عزّز الارتياب في أداء المحقق العدلي طارق البيطار. ولو أنّ المحقق العدلي شملهم بالاستجواب والادعاء مع كل من تعاقبوا على المراكز الأمنية والسياسية المسؤولة عن المرفأ، كان سيُعفى من تهمة الاستنسابية. فالمسؤولية الأمنية تحضر أولاً، لتليها المسؤولية الوظيفية، ثم القضائية فالسياسية، لكنّ المحقق العدلي بدأ بالعكس.
هل هناك من تعمّد تفجير مرفأ بيروت أم أنّ الإهمال تسبب بكارثة؟


كان يجدر بالقاضي التعامل مع الملف بطريقة أخرى، وأن ينظر بعينٍ واحدة إلى جميع من يعتبر أنهم مشتبه فيهم، وأن يحرص على التعامل مع جميع الأطراف بحسن نية درءاً لاتهامه بالحكم المسبق عليهم، لكنّ ذلك لم يحصل. ترافق الارتياب مع توتّر في الشارع. خرج أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ليتحدث عن تسييس المحقق العدلي للتحقيق وتوجيهه. طالب نصرالله القضاء بإعلان النتائج الأولية للتحقيق، لكن ذلك لم يحصل. لم يصدر أي قرار قضائي يكشف ماذا حصل فعلاً على الرغم من أنّ البيطار كان قد تسلم التقرير الثاني من المحققين الفرنسيين الذي خلُص إلى استبعاد فرضية استهداف المرفأ بصاروخ، بالاستناد إلى تحليل التربة في موقع الانفجار الذي بيّن عدم وجود عامل خارجي (سواء عبوة ناسفة أو صاروخ) تسببت بالانفجار.
انتقل الانقسام إلى الشارع ثم إلى العدلية. انقسم القضاة في ما بينهم. تحوّل الكباش السياسي إلى كباش قضائي ليدخل بعدها ملف التحقيق مرحلة العرقلة. قُدّمت طلبات تنحية وارتياب ومخاصمة من معظم السياسيين المدعى عليهم. وفي كلّ مرة، كان يُتّخذ قرار برد الطلب، كان يُعاجَل المحقق العدلي بطلب جديد لاستبعاده. تسبّب ذلك بشلل في الملف. جُمِّد المسار القضائي في الوقت الذي أصرّ فيه المحقق العدلي على عدم التنحي. أعلن تمسكه بالملف حتى الرمق الأخير. انقضت السنة الثانية على انفجار مرفأ بيروت. أنهى فرع المعلومات تحقيقاته ورُسِم مسار وصول النيترات مروراً بتخزينها وصولاً إلى انفجارها، لكن القرار الظني لم يصدر بعد.
منذ بدء التحقيق، وضع المحقق العدلي أمامه عدة فرضيات من بينها فرضية الاستهداف الجوي التي أسقطها تقرير المحققين الفرنسيين. بقيت فرضيتان، الأولى: حصول خطأ أثناء عملية تلحيم باب العنبر الرقم 12 أدى إلى اندلاع الحريق، ثم وقع الانفجار. والفرضية الثانية هي حصول عمل أمني أو إرهابي متعمّد داخل المرفأ تسبّب بالكارثة، سواء لجهة إدخال النيترات وتخزينها أو استغلال وجودها لتفجيرها.
بعد مرور سنتين، لا يوجد أمام المحقق العدلي طارق البيطار سوى خيار واحد هو أن يخرج على الناس ليخبرهم ماذا حصل. هل هناك من تعمّد تفجير مرفأ بيروت أم أنّ الإهمال تسبب بكارثة. الإجابة بسيطة جداً رغم هولها، لكن انتظارها طال كثيراً.



طارق البيطار: حيّد قائد الجيش فقتل التحقيق
تولّى القاضي طارق البيطار مهام المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت خلفاً لسلفه القاضي فادي صوّان الذي أطاحت به محكمة التمييز العسكرية. اسمٌ لم يلبث أن ذاع صيته ليصبح الأكثر شهرة بين قضاة لبنان جرّاء غضبة الرأي العام على الطبقة السياسية واتهام أركانها بالتورّط بكل ما أصاب اللبنانيين. هكذا تحوّل البيطار جراء تولّيه التحقيق في أكبر انفجار في تاريخ لبنان إلى رأس حربة ضد الطبقة السياسية ورمزاً للمتظاهرين في الشارع.
البيطار ابن 47 عاماً من بلدة عيدمون العكارية، التحق بسلك القضاء بعد تدرّجه في المحاماة، ليكون بين الأوائل في معهد الدروس القضائية. تنقّل بين عدد من المراكز القضائية قبل أن يعيّن رئيساً لمحكمة الجنايات في بيروت عام 2017 حتى تعيينه محققاً عدلياً بناء على اقتراح وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم. شغل البيطار قبلها منصب المحامي العام الاستئنافي في الشمال، ثم تولى منصب قاض منفرد.


اسم البيطار سبق أن طُرِحَ ليكون محققاً عدلياً في انفجار الرابع من آب قبل تكليف صوّان، لكن مجلس القضاء الأعلى استعجل عدم الموافقة عليه، بذريعة أنّه «لا يُريد تولّي التحقيق لأسباب خاصة، قبل أن يتبيّن أنّه كان موافقاً على القيام بالمهمة إنما التباساً قد وقع جراء سوء فهم لدى أعضاء مجلس القضاء الأعلى الذين فهموا أنّ أجابته تعني «لا». ولم يكن انفجار مرفأ بيروت الملف المثير للجدل الوحيد الذي تولّى البيطار التحقيق فيه. فقد أصدر حكمه ضد طارق يتيم في جريمة قتل جورج الريف. كذلك أصدر حكماً لصالح الطفلة إيللا طنّوس التي بُتِرت أطرافها الأربعة جراء خطأٍ طبي. وأصدر حكماً مماثلاً على محمد الأحمر في جريمة قتل روي حاموش.
الإجماع الذي حصل عليه القاضي البيطار لم يلبث أن استحال انقساماً في الشارع وصل حد سفك دماء لبنانيين سقطوا في مجزرة الطيونة على أيدي عناصر من القوات اللبنانية أثناء تظاهرة احتجاجية على أدائه. اعتبر قسم كبير من اللبنانيين أنّ المسار الذي سلكه التحقيق خلق لديه ارتياباً كبيراً. ولعلّ المسألة الأكثر فجاجة إصراره على تحييد قائد الجيش الحالي وقراره الواضح بعدم توقيف أحد من قيادة الجيش السابقة والحالية، مع أنّ المسؤولية الأساسية في ملف نيترات الأمونيوم تحديداً يتحملها الجيش، بحسب قانون الأسلحة والذخائر.
قُدِّم بحق البيطار أكثر من 30 طلب ردّ ونقل ومخاصمة، لكنه لم يتنحّ. الرواية الكاملة لما حصل توصّل إليها المحققون، لكنها لا تزال حبيسة الأدراج. لم يصدر القرار الظني بعد جراء عراقيل عدة. يترافق ذلك مع إصرار القاضي البيطار على التمسّك بالملف. عنادٌ يُسجّل للقاضي ويؤخذ عليه في ظلّ وجود عشرات الموقوفين الذين أصبح توقيفهم جميعاً ظلماً لاحقاً بحقهم وحق عائلاتهم. لا سيما أنّ سيف العدالة المسلول الذي لا يُسلط على الجميع بالتساوي، لا يوصل إلى الحقيقة إنما يطمسها متسبباً بظلمٍ كبير. بالتالي، ستكون الحقيقة المرتقبة ناقصة في ظلّ استنسابية الملاحقة. هكذا يطول الانتظار فيما الحقيقة التي تمّ التوصّل لها لن تروي العطشى لها.


فادي صوّان: محقق عدلي فاشل
اقترحت وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم اسم القاضي فادي صوّان ابن بعبدا على مجلس القضاء الأعلى في الخامس عشر من آب عام 2020 ليكون محققاً عدلياً في انفجار مرفأ بيروت. صوّان الذي كان مقرّباً من حزب الكتائب اللبنانية شغل مناصب قضائية عدة قبل أن ينتهي به الأمر قاضياً للتحقيق العسكري الأول اليوم.
من قاضٍ للإيجارات وقاضٍ منفرد في قصر عدل الجديدة لبضع سنوات إلى منصب محامٍ عام، ثم قاضي تحقيق في بعبدا لنحو عشر سنوات. لم يكن القاضي الذي تنقّل بين عدد من المراكز على مستوى التوقعات. تورّط في لعبة الإعلام ليسير بالتحقيق على إيقاعه. كان يتأثر بضغط الرأي العام لمجرّد ظهور صحافي ينتقد قراره فيتّخذ قراراً مغايراً لسابقه. القاضي الذي يلقّبه زملاؤه بـ«اليميني المتطرّف» لشدة تعصّبه المذهبي كان يخشى المواجهة وهو أمرٌ عُرِفَ به على غرار ما حصل في حادثة قبرشمون عندما حوّل إليه الملف كقاض عسكري بالإنابة، لكنّه نفذ ما طلبه منه الوزير السابق سليم جريصاتي ليُسلِّمَ الملف إلى القاضي مارسيل باسيل.


أداء القاضي صوّان وجّه ضربة للثقة في التحقيقات. تعامل مع الملف بخفّة غير مسبوقة لدرجة أنّ مدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا تمكن من الإيقاع به. فقد عمد صليبا إلى تسجيل وقائع جلسة استجوابه أمام المحقق العدلي، حيث ظهرت عدم حيادية صوان ووجود حكم مسبق وتوجيه للتحقيق. بعدها تقدّم صليبا بثلاث شكاوى ضد صوان. الأولى شكوى تشهير، مطالباً بتعويض. والثانية طلب ردّ المحقق العدلي، على الرغم من أنّ محكمة التمييز في البداية رفضت تدوينها، لكنّ صليبا دوّنها في محكمة الاستئناف ليؤخذ بها لاحقاً. أما الشكوى الثالثة، فكانت بشأن الارتياب المشروع التي ضمّ إليها إفادة العنصر في أمن الدولة التي استند إليها قرار محكمة التمييز أيضاً.
أثار أداء صوّان الكثير من الضجيج ليرمي ورقته الأخيرة بطلبه من البرلمان التحقيق مع وزراء حاليين وسابقين للاشتباه بارتكابهم مخالفات أو جرائم على صلة بالانفجار وطلب الادعاء على كلّ من رئيس الحكومة الأسبق حسان دياب ووزير المالية السابق علي حسن خليل ووزيري الأشغال العامة والنقل الأسبقين غازي زعيتر ويوسف فنيانوس «بعد التثبت من تلقيهم عدة مراسلات خطية تحذّرهم من المماطلة في إبقاء نترات الأمونيوم في حرم مرفأ بيروت، وعدم قيامهم بالإجراءات الواجب اتخاذها لتلافي الانفجار المدمّر وأضراره الهائلة».
في 18 شباط 2021، صدر قرار عن محكمة التمييز الجزائية قضى بنقل ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت من المحقق العدلي القاضي فادي صوّان إلى محقق عدليّ آخر، بسبب «الارتياب المشروع». حاول صوّان الظهور بمظهر «البطل» لكن أخطاءه الجسيمة أطاحت به.
صوّان الذي يُعرَف بقربه من الكنيسة سجّل سابقة بمنعه المحاكمة عن راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة والنائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية للطائفة المارونية المطران موسى الحاج في فضيحة غير مسبوقة جرى طمسها بعدما تبين أنّ المطران قد نقل مبالغ مالية على ثلاث دفعات لعسكري تورّط في التعامل مع العدو الإسرائيلي ليعتبر أنّ الأمر ليس من اختصاص المحكمة العسكرية.