أن تبحث أقلية متناثرة صغيرة عن مكان لها على الخارطة الجديدة في عالم ما بعد سايكس ـــ بيكو، فذلك يثير الذعر حتماً. الموحدون الدروز في لبنان وسوريا على وجه الخصوص ينتابهم قلق وجودي، كغيرهم من أبناء الأقليات في المشرق، وربما أكثر. وما يزيد الطين بلّة أن «مخاض التقسيم» الذي ثبّت كيان دويلة كردية في شمال العراق وأجزاء من شمال سوريا، يمرّ بدولة «خلافة» آخذة في التوسع من قلب البادية السورية والعراقية.
وحُكم الدروز فيها أنهم «الكفرة الضالون، فلا يباح أكل طعامهم، وتسبى نساؤهم وتؤخذ أموالهم، فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يقتلون أينما ثقفوا»، كما أفتى «شيخ الإسلام» ابن تيمية في زمن سحيق! (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية، «آراء العلماء في الدروز»، «حكم الدروز والنصيرية» لابن تيمية ـــ المجلد 28).
لا يغفل الدروز اليوم عن التحولات الكبرى في المشرق. فالتقسيم الذي كان كلاماً يسمعه الموحدون كغيرهم من هنا وهناك، أصبح واقعاً في كردستان، وأراضٍ شاسعة من العراق وسوريا، لتضاف ككيانات جديدة إلى الدولة اليهودية. هل تصمد الدولة السورية وتبقى ضمانة للدروز؟ وهل باستطاعة الدروز في حال انهيار الدولة السورية تشكيل «كونتون» خاص بهم؟ ماذا عن لبنان، واحتمالات تغيير بنية نظام ما بعد الطائف، الهشّة أصلاً؟ أسئلة لا بدّ تفتح باب النقاش واسعاً في مصير الأقلية، التي لطالما شكّلت عقدة وصل ديموغرافية وجغرافية لكيانات سايكس ــ بيكو.

الدور الإسرائيلي وأوهام الصفدي

لسلطان باشا الأطرش مكانة كبيرة في وجدان الدروز. رفض زعيم السويداء في عشرينيات القرن الماضي مشروعاً فرنسياً لمنح جبل الدروز حكماً ذاتياً، تحت مسمى «حاكمية جبل الدروز». في تراث الدروز أيضاً، يعيش كمال أبو لطيف (ضابط في الجيش السوري من بلدة عيحا في راشيا) وكمال كنج أبو صالح (محام من بلدة مجدل شمس في الجولان المحتل) كبطلين كشفا مشروعاً إسرائيلياً تلى حرب 1967. وعلى ما يذكر الكاتب خالد قطمة في كتابه «قصة الدولة الدرزية»، واللواء سامي الخطيب في مذكراته، والمؤرخ الإسرائيلي «شمعون أفيف» في كتابه «سدر النحاس»، فإن «الكمالين» أحبطا منتصف عام 1968 مخططاً إسرائيلياً لاجتياح الجنوب السوري حتى السويداء، والجنوب اللبناني حتى راشيا، ومن ثمّ تثبيت «دويلة درزية» تحمي حدود الكيان الشمالية.
درزي من فلسطين سوّق «المشروع الإسرائيلي» عند عددٍ
من مشايخ لبنان
بعد أقل من نصف قرن على فكرة «الدويلة الدرزية»، تشير المعلومات المجمّعة عند أمنيين معنيين بالجبهة الجنوبية في لبنان وسوريا إلى أن إسرائيل التي تدعم المعارضة المسلحة السورية، فعّلت في المرحلة الأخيرة عملاء لها من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين الدروز، لإعداد أرضية عند الدروز عبر الترويج أن «إسرائيل في صدد القيام باحتلال الأجزاء المحررة من محافظة القنيطرة لإبعاد خطر الفوضى السورية عنها. وبالتالي ستساعد الدروز على إقامة كيان خاص بهم يمتد من الجولان إلى السويداء». وكان سبق التحرك الإسرائيلي الأخير نشاط لافت للمدعو منذر الصفدي. والأخير ابن بلدة مجدل شمس في الجولان المحتل. لكن أهل بلدته يرفضون استقباله بسبب علاقاته بإسرائيل. غيّر اسمه إلى «مندي» وعمل لفترة كمدير مكتب الوزير عن حزب الليكود أيوب قرة، وهو مقرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سبق أن عمل كوسيط بين إسرائيل وشخصيات في المعارضة السورية. في نيسان 2012، حمل الصفدي متاعه إلى أوروبا، حيث أبلغ عدداً من الشخصيات الدرزية المتمّولة من لبنان وسوريا أن إسرائيل تنوي احتلال القنيطرة، وعلى الدروز أن يكونوا في جاهزية لتلقي الدعم الإسرائيلي وتشكيل منطقة خاصة لحكمهم. وفي وقتٍ لاحقٍ من عام 2012، نشرت الصحافة البلغارية والإسرائيلية بعض المعطيات عن جولات الصفدي في العاصمة البلغارية صوفيا، ونقلت «هآرتس» أن جولات الصفدي أثارت سخط سفير إسرائيل في بلغاريا «شاؤول كميسا» الذي رفع برقية إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية تضمنت شكوى من نشاط صفدي في بلغاريا.
وفي المعطيات أيضاً أن رجلاً درزياً من دروز فلسطين المحتلة استطاع دخول لبنان صيف عام 2012، وعرّف عن نفسه باسم «أبو يوسف»، حاول تسويق المشروع الإسرائيلي عند عددٍ من المشايخ، ولم يلقَ آذاناً صاغية.
مصادر لصيقة بسوريا وحزب الله لا تنفي رغبة إسرائيل في تعميم فكرة التفتيت، «بعد الدولة الكردية ودولة الخلافة المدعومة تركياً وإسرائيلياً». وتقول المصادر «سواء بقي تنظيم داعش أم حلّت محلّه جماعات متطرفة أخرى تدّعي الاعتدال، فإن حدود الدولة المذهبية قد رُسِّمت، كما رسمت حدود الدولة الكردية».
لكن هذا لا يعني أن «التقسيم في سوريا حاصل، الدولة لا تزال قوية، ومحور المقاومة سيواجه التقسيم بكل قوته»، كذلك فإن «الظروف التي كانت تساعد إسرائيل على احتلال جنوب سوريا ولبنان غير موجودة الآن، ولا أحد من الدروز يصدق أن هناك أفقاً لدولة درزية غير قابلة للحياة، لا ديموغرافياً ولا اقتصادياً». وتشير المصادر إلى أن «ما تريده إسرائيل هو المزيد من الفتن، وتحويل الدروز إلى حرس حدود لها، كما أنها تحاول استباق انخراط الدروز في تنظيمات مقاومة جديدة بدأت تظهر على الساحة السورية».


التقسيم شرٌ مطلق

لا يمكن أحداً أن يحسم مصير المنطقة من الآن، في ظلّ وتيرة التحوّلات المتسارعة. لكن رفض التقسيم رفضاً قاطعاً ورفض الحديث عن إمكانية تشكيل الدروز كياناً مستقلاً، المعلن على الأقل، ليس حكراً على مشايخ سوريا وفعالياتها ومشايخ لبنان وسياسييه في فريق 8 آذار، بل ينسحب أيضاً على جزء واسع من مشايخ لبنان، حتى أولئك المقربون من النائب وليد جنبلاط. في تماهٍ تام مع مواقف «الأجاويد» (رجال الدين الدروز) في سوريا، يرى مشايخ لبنان أن «تقسيم المشرق شرٌ مطلق».
فكلام شيخ العقل في سوريا حمود الحناوي لـ«الأخبار» عن أن «الدروز سيواجهون أي مشروع تقسيمي في المنطقة، لأن وجودنا متوقف على الوجود الوطني العربي السوري»، والشيخ يوسف جربوع عن أن «ضمانة الدروز هي الدولة الوطنية والسويداء محافظة مكملة للنسيج السوري»، يتردّد صداه في الشوف وعاليه والجرد والمتن الأعلى وحاصبيا وراشيا. وإذا كان موقف الشيخ سليمان أبو نبيه كبّول في عرنة السورية على سفوح جبل الشيخ أن «الطائفة في كلّ مكان ضد التقسيم»، فإن كلام مشايخ خلوات البياضة في حاصبيا يكمّل الشق السوري.
يقول كبير مشايخ خلوات البياضة غالب قيس لـ«الأخبار» إن «التقسيم مدمّر لكل المنطقة، وخيار الدروز هو الدول الجامعة لمكونات الشعب». ويلفت الشيخ سليمان شجاع إلى أن «الدروز طائفة وحدوية»، بينما يشير الشيخ فندي شجاع إلى أن «أي تقسيم بالنسبة إلينا مرفوض.
نحن موحدون وحدويون، فالعروبة هي الرابط الوحدوي خارج التقسيمات الطائفية». وتنسحب المواقف الرافضة للتقسيم على عاليه، إذ ينقل زوار الشيخ أمين الصايغ عنه قوله إن «ولاء الدروز هو للدول الوطنية المركزية، ضد الدويلات الدينية، وليس لدى الدروز أطماع ولا دين توسّعي»، وعن الشيخ أبو سليمان حسيب الصايغ الموقف عينه، فيما يؤكّد شيخ العقل ناصر الدين الغريب لـ«الأخبار» أن «التقسيم مهلكة، والدروز لا يمكن أن يوافقوا على مشاريع هدّامة للمنطقة ». حتى رئيس مؤسسة العرفان التوحيدية الشيخ علي زين الدين الذي يشير إليه كثيرون في الطائفة وغيرها بأن مشروع التقسيم «يحرّك رغباته الدفينة»، يؤكد لـ«الأخبار» أن «لا مصلحة للدروز في أي تقسيم، بل على العكس، قد يكون التقسيم نهاية للطائفة».




75 كلم بين «الخلافة» والسويداء

يرى قاطنو جبل العرب في «داعش» أو «الدولة الإسلامية» «خطراً وجودياً على كل مكونات الشعب السوري والعراقي، في ظل الهمجية التي يمارسها هؤلاء ضد من يخالفهم الرأي من السنّة والأقليات»، على ما تقول مصادر فاعلة في المؤسسة الدينية. الأسوأ بالنسبة إلى السويداء أن مسلحي «دولة الخلافة» لا يبعدون أكثر من 75 كلم عن المحافظة، بعد سيطرتهم على المثلث العراقي ــ السوري ــ الأردني. وما يفصلهم اليوم عن القرى الشرقية هو منطقة الأصفر في البادية السورية، التي تشكل خط تهريب للأسلحة والمسلحين باتجاه غوطة دمشق. مصادر أخرى في المؤسسة الدينية تربط بين التحولات الأخيرة و«حملات شراء الأراضي في البادية، المموّلة من جمعيات سعودية وقطرية وأردنية».
وتقول المصادر إن «البادية تعوم على بحر من المياه، ما يجعلها هدفاً أكيداً لمسلحي داعش في المستقبل». من جهتها، تؤكّد مصادر ميدانية أن «داعش حتى الآن لا تشكل خطراً على السويداء، لكن الجيش السوري والحزب السوري القومي الاجتماعي واللجان المسلحة في المحافظة تولي القرى الشرقية أهمية قصوى في ظل التحولات الأخيرة».





اغتيال قائد درزي في «المقاومة السورية»

بعد ظهر الثلاثاء 17 حزيران الماضي، قضى ابن بلدة حضر في جبل الشيخ موفّق بدرية، الملقّب بـ«أبو عناد»، بانفجار سيارته في منطقة دورين، على أوتوستراد السلام بين القنيطرة ودمشق قرب بلدة مقروصة. وتشير مصادر أمنية معنية إلى أن «المعلومات الأولية تشير إلى أن انفجار سيارة الشهيد بدريّة ناجم عن عبوة ناسفة ألصقت بسيارته، زرعها عملاء للموساد في المنطقة، على خلفية نشاطه في مقاومة العدو الإسرائيلي». وعلمت «الأخبار» من مصادر محلية في جبل الشيخ أن اغتيال بدرية يأتي على خلفية «إطلاق عدة صواريخ على موقع مرصد جبل الشيخ الإسرائيلي في آذار الماضي»، والذي حمّلت إسرائيل مسؤوليته للجيش السوري وحزب الله. وفي الوقت الذي تلتزم فيه مصادر الجيش السوري ومقربون من حزب الله الصمت حيال عمليات المقاومة المستجدة في جبل الشيخ، تؤكّد مصادر محلية لـ«الأخبار» أن «الشهيد بدرية كان ضمن منظومة عسكرية منتشرة في محافظة القنيطرة هدفها العمل ضد المصالح الإسرائيلية في الجولان السوري المحتل».