أظهر الجدل الذي دار بين النواب، خلال جلسة انتخاب الرئيس ونائب الرئيس أمس، حالة من الضياع تعكس جهلاً واضحاً بتاريخ الممارسة الدستورية في لبنان وكيفية تطوّر الأحكام القانونية المتعلقة بهذا الموضوع. وقد تمحور الخلاف حول كيفية احتساب الغالبية المطلقة من أجل تحديد الفائز: هل تحتسب انطلاقاً من مجموع عدد أعضاء النواب أي 128 نائباً، أو من مجموع الذين شاركوا في الاقتراع من دون المتغيبين، أو الذين اقترعوا فعلياً من دون احتساب الأوراق البيضاء أو الملغاة.نصّت المادة 44 من الدستور على ضرورة انتخاب الرئيس ونائبه «كل منهما على حدة بالاقتراع السري وبالغالبية المطلقة من أصوات المقترعين. وتبنى النتيجة في دورة اقتراع ثالثة على الغالبية النسبية، وإذا تساوت الأصوات فالأكبر سناً يعد منتخباً».
من الملاحظ أن المادة 44 تعود في نصها هذا إلى سنة 1926، مع تبنّي الدستور اللبناني. وقد جاءت الصيغة العربية المعتمدة اليوم ترجمة حرفية للنص الفرنسي الذي يستخدم تعبير: «suffrages exprimés» أي أصوات المقترعين، أو بشكل أدق الأصوات التي تم التعبير عنها، علماً أن الدستور في مواد أخرى يستخدم صيغة مختلفة لتحديد كيفية احتساب الغالبية المطلقة فيقول «الغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلّفون المجلس قانوناً». لذلك لا يمكن أن تكون الغالبية المطلقة من أصوات المقترعين مماثلة للغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء وإلا انتفت الحاجة إلى التفريق في النص الدستوري بين المفهومين.
من هنا ضرورة البحث في النظام الداخلي لمجلس النواب الفرنسي خلال الجمهورية الثالثة، تاريخ 16 حزيران 1876، والذي يشكل المصدر المباشر للمادة 44 من الدستور اللبناني، إذ يتبين منه بخصوص انتخاب رئيس المجلس وفقاً لتعليق للعلامة أوجين بيار التالي:
« La majorité absolue se calcule d’après le nombre des votants. On entend par votants ceux qui ont réellement exprimé un suffrage, en conséquence le chiffre de la majorité absolue ne doit pas être établi d’après le nombre de membres qui on matériellement pris part au scrutin, mais d’après le chiffre des suffrages exprimés si faible qu’il soit »[1].
ما يعني أن الغالبية المطلقة من أجل انتخاب رئيس مجلس النواب تحتسب وفقاً لعدد ليس الذين شاركوا مادياً في الاقتراع، بل الذين أدلوا فعلياً بصوت صحيح، أي الذين اقترعوا لشخص محدد. لذلك يجب أن تحتسب هذه الغالبية وفقاً لعدد الأصوات التي تم منحها لأشخاص محددين من دون الأوراق البيضاء أو الملغاة التي لم تعبّر عن اقتراع ما:
« Dans les élections auxquelles procèdent chaque Chambre (…) les bulletins blancs ne sont pas comptés comme suffrages, et sont déduits du chiffre d’après lequel se calcule la majorité absolue»[2].
فمن أجل انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه، يتوجب توافر الغالبية المطلقة من أصوات المقترعين فقط، من دون الأخذ في الاعتبار الأوراق البيضاء أو الملغاة. وهذا ما تنص عليه صراحة المادة 12 من النظام الداخلي للبرلمان اللبناني عندما تعلن التالي: «لا تدخل في حساب الغالبية في أي انتخاب يجريه المجلس الأوراق البيضاء أو الملغاة»[3].
وحقيقة الأمر أن هذه الطريقة في احتساب الغالبية المطلقة في حال الانتخاب تعود في النظام اللبناني إلى النظام الداخلي الفعلي الأول لمجلس النواب الذي أقر سنة 1930، والذي نص في مادته الخامسة على التالي: «تعتبر الأوراق الانتخابية الخالية من الأسماء والممضاة من واضعيها أو الحاوية إشارة معينة ملغاة. إن الأعضاء الممتنعين عن الاشتراك في التصويت لا يدخلون في حساب الأكثرية وكذلك الأوراق الخالية من الأسماء والمشار إليها في الفقرة الأولى تحسب ملغاة ويكتفى بعدد الأوراق المقبولة في حساب الأكثرية». وقد كررت المادة الرابعة من النظام الداخلي الذي أقر سنة 1953 هذا المبدأ فنصت على التالي: «لا تدخل الأوراق البيضاء أو الملغاة في حساب الأكثرية».
وبالفعل، في أكثر من مناسبة قبل 1990 خلال انتخابات هيئة مكتب المجلس، تم الأخذ فقط من أجل احتساب الغالبية عدد المقترعين الفعليين حتى لو كان أقل من مجموع أعضاء مجلس النواب وأيضاً مع عدم احتساب الأوراق البيضاء. وهذا ما حدث مثلاً في جلسة انتخاب نائب الرئيس بتاريخ 22 تشرين الأول سنة 1946 وفقاً للمحضر الرسمي التالي:
«عدد المقترعين: 50، عدد الأوراق: 50 منها خمس أوراق بيضاء
رئيس السن - عدد المقترعين 50، عدد الأوراق 50 منها خمس ورقات بيضاء فتكون الأكثرية 23 صوتاً ولما لم يفز أحد من المنتخبين بالأكثرية فإننا نعود لانتخاب نائب الرئيس مرة ثانية».
فمن أصل مجلس يتألف من 55 نائباً، شارك فقط 50 منهم في الجلسة اقترعوا جميعاً، لكن مع وجود خمس أوراق بيضاء، لذلك أتت الغالبية المطلقة تحتسب على أساس 45 صوتاً، ما يعني أنها 23 صوتاً كما هو مذكور صراحة في المحضر الرسمي للجلسة.
جرّاء ما تقدم يصبح جلياً أن النائب الياس بو صعب بحصوله على 64 صوتاً من أصل 113 اقتراعاً صحيحاً، مع استبعاد الأوراق البيضاء والملغاة، يكون قد انتخب انتخاباً صحيحاً نائباً لرئيس مجلس النواب من الدورة الأولى كونه حصل على الغالبية المطلقة من المقترعين أي 57 صوتاً من أصل 113.
يعكس الجدال الذي دار بين النواب عدم معرفتهم بالمصادر التاريخية للأحكام الدستورية اللبنانية وتاريخ الممارسة البرلمانية في لبنان، إذ إن مواقفهم يتم التعبير عنها بلحظتها كرد فعل على حدث ما أو رأي معين، وهي غالباً ما تعكس مصالحهم السياسية المتقلبة رغم تلطيها وراء حجج دستورية ضحلة.
* أستاذ في القانون الدستوري