ليس خافياً ان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أضحى اليوم في منزلة الرؤساء الثلاثة. كأنه رابعهم. ليس هو فحسب أرفع الموظفين الكبار في الدولة اللبنانية المشتبه به، بل جزء لا يتجزأ من نظام اضحى اكبر من الدولة نفسها، ومن قدرة اي احد في الداخل - وربما الخارج - على ابتلاعه او تقويضه بالسهولة المتوخاة: يستمر بمَن في هذا النظام او ينهارون به. مع ان لا حصانة ينص عليها منصبه في قانون النقد والتسليف، الا ان الرجل بات اقوى من صلاحياته ومن الحصانة نفسها. في المادة 19 من القانون، شروط تعجيزية لإقالته ما لم يستقل اختيارياً، تدور من حول عجز صحي واخلال بواجباته الوظيفية او بخطأ فادح في تسيير الاعمال. ليس في انهيار النقد الوطني ما يبرر اياً من هذه الشروط، ما دام الرجل ليس وحده مسؤولاً عما حصل. الا انه اصر على ان يكون حصان هذا النظام برمّته. يختبئون من ورائه، ويتصدّر عنهم المواجهة ولا يخسر.في القضايا الملاحق بها، يتذرع محاموه بالمادة 12 في القانون 44/2015 الذي يتحدث عن مكافحة الارهاب وتبييض الاموال والتهرب الضريبي. اذ تعفي رئيس هيئة التحقيق الخاصة الذي هو حاكم مصرف لبنان من اي ملاحقة او ادعاء عليه، وتمنحه حصانة مطلقة. الحجة القانونية لهؤلاء ان الرجلين واحد، وحصانة احدهما تمتد الى الآخر.
في ما سرى من معلومات في الظل في الايام المنصرمة، الحصول على استشارات قانونية ومالية دولية، رمت الى التحقق من ان اي ادعاء قضائي على سلامة لن يفضي الى توقف المصارف المراسلة في العالم عن التعامل مع النظام المصرفي اللبناني ومصرف لبنان، ما خلا حالة صدور حكم ادانة به. اذذاك تتوقف. اما الحاجة الى هذا الاستفسار والتيقن منه، فهو اتفاق يطوي الى فترة طويلة ملف الحاكم بغية الانصراف الى الانتخابات النيابية العامة، فالانتخابات الرئاسية التي تليها بعد اشهر، بعدما تسببت الاجراءات الاخيرة في ملاحقته باضطراب في العلاقات الرئاسية، وأوشكت ان تضع الاسلاك الامنية وجهاً لوجه وتقترب بها من الصدام.
فحوى التسوية الجاري الحديث عليها، المستندة الى جملة ادعاءات للقضاء الاوروبي ملاحقاً سلامة، تقول بادعاء وشيك للمدعي العام التمييزي غسان عويدات على الحاكم، واحالة الملف الى قاضي التحقيق الاول في بيروت شربل ابو سمرا كي يمضي في تحقيقاته فيه. بادعاء كهذا بالجرم الجزائي نفسه الذي تلاحقه به المدعية العام لجبل لبنان غادة عون، يصدره رأس النيابات العامة الذي هو المدعي العام التمييزي، يصبح حتمياً سحبه منها، فيرقد الملف عند قاضي التحقيق الاول، وفي ظن اصحاب التسوية ان يوضع في الادراج الى ما بعد الاستحقاقين الدستوريين التاليين، ريثما تقبل البلاد على حقبة جديدة بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. حتى ذلك الوقت، يُحيَّد الحاكم - المفترض الادعاء عليه - عن السجالات السياسية، ويصبح ملفاً قضائياً معزولاً عن اي شأن آخر. بذلك يكرّس لنفسه استمرار الحماية السياسية التي تمنع اي تقدّم في الملاحقة القضائية.
في ما يشيعه القائلون بالتسوية هذه، ان كلا الفريقين المحاصِريْن لسلامة، حماته واعداءه، رابحان في هذا المسار: الاولون الذي لا يريدون ملاحقته ويدافعون عنه بصفته واجهة شبكة ضخمة من المتورطين في الانهيارين النقدي والاقتصادي واهدار المال العام، يعرف عنهم ومعهم كمّاً غير محسوب من الاسرار يخفيها فيه الرجل.
ترضية شبه متكافئة يلتقي عليها حماة الحاكم واعداؤه

يربح كذلك اعداء الحاكم الذين يريدون احالته الى القضاء ومعاقبته، عوض اطاحته بعدما سلموا باستحالتها في مجلس الوزراء. يمسي الرجل بذلك بين فريقين أرضتهما تسوية شبه متكافئة: للفريق الذي يريد سحب الملف من القاضية ووقف تدحرج كرة الملاحقات التي تطارده، والفريق الذي يريد تجريمه بأي ثمن دونما ان يحتاج الى ادلة تجريم، بأن يحال على قاضي التحقيق الاول في بيروت.
بذلك، في موازاة تحرّك القضائي الاوروبي - وكان رئيس الجمهورية تحدث عن اربع دول اوروبية تلاحقه هي سويسرا والمانيا ولوكمسبورغ وبلجيكا - يضع القضاء اللبناني، بأعلى مراتبه وليس فحسب القاضية المحسوبة على الرئيس، يده على ملف سلامة بالادعاء عليه.
ما تفضي اليه هذه التسوية:
1 - بقاء سلامة في منصبه كحاكم، ومواصلته اعماله دونما كف يده. جانب النكاية في هذا الامر، استمراره الى حين انتهاء ولايته عام 2023، بعد ان تكون انقضت ولاية رئيس الجمهورية حداً اقصى، او الى حين الاتفاق على تسوية جديدة قبل انتهاء العهد الحالي - المتعذرة في الواقع - او بعده حداً ادنى.
2 - استمرار مفاوضات الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي الى حين الاتفاق على برنامج الاصلاح. وهي الذريعة المعلنة التي تحجم البعض المتمسك به عن التفكير في اي حاكم آخر يخلفه.
3 - استمرار احتفاظه بحماية دولية - للمفارقة - في موازاة الحماية السياسية التي يتمتع بها في الداخل لاسباب مختلفة تماماً. الاميركيون لا يسمحون بالتعرض اليه حتى انتهاء ولاية عون على الاقل. الفرنسيون بدورهم يتمسكون به. اهمية الموقف الفرنسي انه جدد نفسه بنفسه، ناقَضَ ما كان الفرنسيون حضوا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عليه قبل اشهر، على اثر تأليفه حكومته وزيارته الاولى باريس، بتشجيعه على اقالته وتعيين سمير عساف خلفاً له في الحاكمية. هذه الاقالة احتلت البنود الاولى في توصيات الموفد الفرنسي الخاص بيار دوكان المكلف ملف الاصلاحات، واخذت حكومة الرئيس حسان دياب قبل وقت طويل علماً بها. في الآونة الاخيرة تمنت باريس على ميقاتي عدم اقالته او محاكمته في الوقت الحاضر. ترافق هذا التدليع مع «ترويقة»، لعشرة ايام خلت، دعت الحاكم اليها السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو.